أيقظني فجأة وفي الصباح الباكر, صوت طفلي الصغير, والذي كان يشاركنا غرفة نومنا
بسريره الصغير القابع في زاوية الغرفة .
وبسبب صراخه الحاد هذه المرة , قفزت مسرعا باتجاه سريره خيفة أن يكون على وشك
السقوط أثناء محاولته النزول منه.
كنت متضايقا جدا بسبب النعاس الشديد الذي كنت أشعر به
فنظرت اليه والغضب تتزايد وتيرته في نفسي .
لم تكن أمه في الغرفة , فهممت أن أصرخ مناديا اياها لتحضر وتتولى أمره , لكنني فجأة
عدلت عن ذلك بينما عيناي تمعنان النظر وتحدقان فيه بقوة .
بالتأكيد لم تكن هذه هي المرة الاولى التي أراه فيها باكيأ .
الا أن منظره هذه المرة وهو ينتحب بشده قد هالني وهز مشاعري .
كانت الدموع تبلل خديه .
وكانت نظرات عينيه الصغيرتين حائرة مستغيثة , بل قل ملهوفة مرتبكة مرعوبة
الا أنها كانت تصب بإتجاه واحد فقط.
كان ينظر الى مكان أمه الفارغ على السرير , والتي كانت قد غادرته لدقائق معدودة ,ربما
لتحضر له بعض الحليب.
في هذه الثواني المعدودة , مرت أمام مخيلتي ثلاث صور هزت كياني:
منظر عينيه التائهتين وهما تبحثان عن أمه , ذكرتني بلقاء تلفزيوني بثته قناة الجزيرة في
احدى نشراتها الأخبارية مع فتاة فلسطينية من قطاع غزة , تزوجت ولم ترزق بأطفال
فسارعت هي وزوجها إلى تبني ثمانية أطفال أيتام من قطاع غزة محتسبة الأجر عند الله تعالى
وجالت بسرعة في خاطري وكلمح البصر كلمات قالتها تلك الأم :
استطعت أن أتغلب على كل المشاكل مع هؤلاء الأطفال الصغار , إلا مشكلة واحدة
وهي إستيقاظهم في منتصف الليل خائفين وهم يصرخون : ماما ! ماما ! أين ماما ؟
كانو يبحثون عن أمهم في كل أرجاء الغرفة لكن دون جدوى ، لقد استطعت أن أعوضهم
تقريبا عن كل شئ إلا في هذا الموقف فاني أكون عاجزة ولا أستطيع فعل شيئ .
ثم أجهشت الفتاة في البكاء ولم تستطع إتمام المقابلة .
ومن تلك الصورة لمعت في ذهني صورة أخرى :
صورة لستة الاف يتيم يعيشون الان في غزة المحاصرة !
ثم صورة أخرى لأربعة ملايين أرملة في العراق أو قل أربعة ملايين يتيم على الأقل
على اعتبار أن لكل أسرة طفل واحد فقط !
أما الصورة الثالثة:
فقد كانت لخطبة يوم جمعة سمعتها بنفسي في أحد المساجد , حيث ذكر خطيبها
وهو عالم جليل ذو ثقة , ذكر حقيقة مرعبة , اذ قال:
إن تقديراتنا للزكاة الواجب إخراجها في بلدنا لهذا العام تقارب الخمسين مليارا !
نعم خمسين مليارا ولم نستلم حتى الأن ولو مليون واحد !
لمعت كل هذه الصور أمام خاطري عندما شاهدت طفلي الصغير يصرخ باكيا باحثا
عن أمه , والتي افتقدها لدقائق معدودات فقط.
عندها شعرت بحزن شديد , وبلهفة عارمة , فأسرعت محتضنا اياه بقوة , لأبث الطمأنينة
والشعور بالأمان في نفسه الصغيرة التائهة عساه يكف عن البكاء .
ورحت أتمتم بصوت مرتجف :
يا الله .
من لأطفالنا الذين فقدوا أهليهم الى الأبد ؟
من لأيتامنا في هذا العالم الموحش , وقد نسيناهم جميعا بعد أن قست قلوبنا ؟
ومن لأراملنا المعذبات في الأرض , وهن كثر, عددهن يزيد ولا ينقص ؟
رحماك يا الله