العقل نعمة عظيمة من نعم الله على الإنسان، وهو مناط التكليف، والحفاظ عليه من مقاصد الشريعة الخمسة، فينبغي إذن أن نحافظ عليه ونرتقي به، لا أن نمتهنه بالسخافات، ولا أن نهمله فنعيش كالبهائم، همنا الأكل والشرب واللهو واللعب، فنصبح كما قال أحدهم : إنما الدنيا طعام *** و شراب و منام فإذا فاتك هذا *** فعلى الدنيا السلام فهذا مما لا يليق بذلك المخلوق الذي كرمه الله بالعقل، و جعله خليفة في الأرض. ومن المؤسف حقا أننا نرى بعض الشباب ممن يدرسون في الجامعات لا يزالون يشاهدون الرسوم المتحركة !!، ولو تحدثت مع أحدهم أو ناقشته في موضوع ما، وجدت ضحالة في التفكير مما لا يتناسب ولا ينسجم مع مرحلته الدراسية، ولست أدري شباب كهذا كيف سينهض بأمته؟!!. لابأس بالقوم من طول و من قصر *** جسم البغال و أحلام العصافير فلابد إذن من أن نرتقي بعقولنا، وأن نسمو بأفكارنا، ولكن... كيف يكون ذلك، وما هو السبيل؟. في الحقيقة إنها سبل وليست سبيل واحدة، وأولها طلب العلم، وأشرفه العلم الشرعي، فبدونه لا يستطيع المسلم أن يقيم أمور دينه. يقول الإمام الشافعي: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، فهو نور يهتدي به الحائر. ويقول الإمام ابن حنبل: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. تعلم فإن العلم زين لأهله *** وفضل وعنوان لكل المحامد وكن مستفيدا كل يوم زيادة *** من العلم واسبح في بحار الفوائد ثم يأتي بعد ذلك طلب العلوم النافعة التي تعيننا على أمر دنيانا، كالطب والهندسة والأحياء والكيمياء.. وغيرها مما لابد منه، ولا تستقيم الحياة إلا به، فالعلم نور، والجهل ظلمات وباب لكثير من المفاسد. العلم ينهض بالخسيس إلى العلا *** والجهل يقعد بالفتى المنسوب ومن السبل التي تؤدي إلى استنارة العقل واتساع الأفق، القراءة الجادة، والمطالعة في الكتب النافعة، فأنت بالقراءة تضيف عقولا إلى عقلك، وتختصر تجارب وخبرات الأمم والأشخاص في وريقات ، هذا عدا عن الأنس والمتعة التي تجدها في القراءة. يسلي الكتاب هموم قارئه *** ويبين عنه إذا قرأ نصبه نعم الجليس إذا خلوت به *** لا مكره يخشى ولا شغبه قيل لابن المبارك مرة: مالك لا تجالسنا؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه. ويقول ابن الجوزي: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت أني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب ، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم، وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع. لنا جلساء ما نمل حديثهم *** ألباء مأمونون غيبا ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى *** وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة *** ولا يتقى منهم لسانا ولا يدا فإن قلت : أموات فلا أنت كاذب *** وإن قلت: أحياء فلست مفندا فاقرأ وطالع، وتجول بين الحدائق، واقتبس من كل بستان زهرة، ولا تقف عند علم واحد، فإن المرء عدو لما يجهل. احرص على كل علم تبلغ الكملا *** لا تقف عند علم واحد كسلا فالنحل ناحق من كل فاكهة *** إياك بالحق هذا الشمع والعسلا الشمع فيه ضياء في ضياءته *** والشهد فيه شفاء يشفي العللا سبيل آخر يعين على الارتقاء بالعقل، وهو مصاحبة ومجالسة ذوي العقول المستنيرة، وهؤلاء يعرفون من خلال حديثهم، فعقل المرء مخبوء تحت لسانه، والمرء بأصغريه: عقله ولسانه، فمن خلال الكلام تعرف إن كان صاحبه ذو عقل مستنير أو سقيم. وهذا اللسان بريد الفؤاد *** يدل الرجال على عقله يقول أحمد بن عطاء: مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول. ذو النقص يصحب مثله *** والشكل يألف شكله فاصحب أخا الفضل لكي *** تقفو بفعلك فعله وأخيرا أقول، أن مخرجات المرء تأتي تبعا للمدخلات، فالكتب والمجلات التي تقرأها، والبرامج والندوات التي تحضرها أو تسمعها، والأشخاص الذين تحتك بهم وتجالسهم، كل ذلك يؤثر ويسهم في تشكيل وصياغة عقلك وفكرك، فكل إناء بالذي فيه ينضح.