حكم تحديد النسل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد الهادي الأمين وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين وبعد...
لقد أخبر الله تعالى عن الكافرين أنهم لا يهدأ لهم بالٌ حتى يُدخلوا المؤمنين المسلمين الموحّدين في دينهم الكفري ، وما زالوا يقاتلوننا إلى يومنا هذا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا؛ قال الله تعالى : ** ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} [النساء: 89].
ولم يعد المجال العسكري هو الوحيد في الصراع بين الحق والباطل فقد امتد الصراع إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية والثقافية وغيرها.
ومن أبرز ما وجّه الأعداء إليه سهامهم " الأسرة المسلمة " ، فقد أنفقوا وما زالوا يُنفقون الأموال الطائلة لمنع المسلمين من التناسل والتكاثر، وهي إن شاء الله تعالى ستكون عليهم حسرة وندامة.
وحين باءت جهودهم بالفشل وسعيهم بالخسران، راحوا يُحاولون من جديد؛ وكان من آخر ذلك المؤتمر الذي أقاموه لشل الأسرة المسلمة، ولكنّه هذه المرة كان في عقر دارنا وفي كنانة أرضنا، ألا وهو المؤتمر الدولي عن السكان والتنمية الذي عُقد في القاهرة في شهر أيلول/سبتمبر عام 1994.
وقد سطرت أقلام الباطل من مكر القول وزور الكلام ما من شأنه أن يُلبس على المسلمين دينهم ويُفسد عليهم إيمانهم؛ من أجل ذلك ودفاعاً عن ديننا كان هذا المقال.
الترغيب في النكاح :
شرع الله تعالى -جلّت حكمته- الزواجَ لحكم كثيرة ، منها:
أنه أحصن للفرج وأغض للبصر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء )) [متفق عليه].
ومنها: الإبقاء على الجنس البشري في الأرض لعمارتها وإصلاحها تحقيقاً لما أراده الله تعالى.
ومنها: كثرة الأولاد الذين يتم بهم بناء الأسرة وتقوى بهم الأمة ويتحقق التعاون بينهم، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ونهى عن التبتل وترك الزواج، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ بالباءةِ وينهى عن التبتلِ نهياً شديداً ويقول: (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثرٌ بكم الأنبياء -وفي رواية مكاثرٌ بكم الأمم- يومَ القيامة )) [رواه أحمد وأخرجه ابن حِبان وصححه].
الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل :
(أ) منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل كالعزل، وهو قذف ماء الرجل خارج الرحم، وكتناول العقاقير ووضع اللبوس -وهو اللولب- في الفرج وترك الجماع في وقت إخصاب بويضة المرأة ووضع العازل المطاطي ونحو ذلك.
(ب) تحديد النسل: هو التوقّف عن الإنجاب عند الوصول إلى عدد معين من الذرية، وذلك باستعمال وسائل يُظن أنها تمنع من الحمل.
(ج) تنظيم الحمل: ويكون في استعمال وسائل معروفة لا تؤدّي إلى إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لأسبابٍ شرعية القصد، منها مراعاة حال الأسرة وشؤونها من صحة أو قدرة على التربية، أو لإتمام مُدة الرضاعة وهي سنتان كما بينها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
فالمقصود من منع الحمل، هو عدم الرغبة في التناسل مطلقاً، سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا.
أما تحديد النسل فيُقصد به تقليل عدد النسل بالوقوف عن إنجاب الأولاد بعد عدد معين؛ وبهذا يكون الفرق أخي القارئ قد بان لك جليا.
حجج دعاة تحديد النسل :
أولاً: زعمهم أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكن الناس وللزراعة والإنتاج ممّا يحتاجه الناس محدود.
ثانياً: أن الفطرة وضعت حداً مناسباً لتنظيم النسل والمنع من تضخيمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان.
ثالثاً: أن طبقات الناس متفاوتة غنىً وفقراً، فلهذا وجب الحد من التناسل صيانةً للأسرة مما يتهدّدها من خطر كثرة الأولاد -بزعمهم- وإنقاذاً للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات.
رابعاً: أنّ تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها.
وهذه الحجج التي اعتمدوا عليها في الترويج والدعاية تحديد النسل لا تصلح مبرراً له، بل هي غير صحيحة لمناقضتها الواقع ومنافاتها مقتضى الفطرة والإسلام، حيث أن لتحديد النسل أو منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل مضاراً كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وجسمية. [أنظر أبحاث هيئة كبار العلماء ج2، فصل بواعث منع الحمل وكتاب الإجهاض بين الطب والدين للشوادفي 73،74].
خوف الأعداء من زيادة نسل المسلمين :
أصيب العالم الغربي بفزع شديد من زيادة أعداد المسلمين خصوصاً والمواجهة على أشُدها بين المسلمين وأعدائهم من يهود وغيرهم، وزاد من خوف الغرب النصراني ما يملكه العالم الإسلامي من المواد الخام وما تحتويه أرضه من الثروات كالبترول والمعادن وغيرها من الثروات، مما يُساعد على تحويله إلى قوة عالمية في فترة وجيزة إذا ما استيقظ المسلمون وفاقوا من غفلتهم وعزلوا حكامهم المرتدين الذين قدموا الغالي والنفيس من ثروات بلادنا لأسيادهم من يهود والغرب النصراني.
لقد أشار المفكر الألماني " بول شميتز " إلى خطورة القوى البشرية الإسلامية على المواجهة بين المسلمين واليهود فقال: ( تشير ظاهرة نمو السكان في أقطار الشرق الإسلامي إلى احتمال وقوع هزة في ميزان القوى بين الشرق والغرب، فقد دلت الدراسات على أن لدى سكان هذه المنطقة خصوبة بشرية تفوق نسبتها لدى الشعوب الأوربية، وسوف تمكن الزيادة في الإنتاج البشري الشرق على نقل السلطة في مدة لا تتجاوز بضعة عقود ) . [من كتابه " الإسلام قوة الغد العالمية " ص201، نقلاً عن " الإجهاض بين الطب والدين للشوادفي " ص56].
لذلك خطط أعداء الإسلام الكفرة الأصليين وألزموا عملائهم الكفرة المرتدين من حكام المسلمين بتنفيذ هذه المخططات في بلاد المسلمين، وبدأ الإعلام يشير بعناوين مضللة على صفحات جرائده الأولى وبالخط الواضح العريض، واصفاً تزايد عدد نسل المسلمين بـ " الانفجار السكاني " ، وحذّر من المجاعات التي ستحصل في المستقبل القريب إن لم تقم الدول العربية والإسلامية بتحديد النسل ** كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [الكهف: 5].
يقول الأستاذ محمد إقبال : ( هناك سيل عرمرم من الكتب والوسائل التي تحاول أن تجرف بلادنا إلى اتباع خطة منع الحمل على حين أن أهل الغرب في بلادهم أنفسهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة السكان ) . [أنظر كتاب حركة تحديد النسل لخورشيد أحمد ص185].
موقف الإسلام من تحديد النسل :
لقد أجمع العلماء المعاصرين على تحريم تحديد النسل وفرقوا بينه وبين تنظيم النسل، وقد عرّفنا الفرق في بداية كلامنا لكي لا يستدل دعاة تحديد النسل بإباحة الشريعة لتنظيم النسل، وبيّنا بأن الفرق بينهما شاسعٌ.
وقبل أن أسرد فتاوى العلماء في تحريم تحديد النسل أحب أن أبين بعض النقاط التي استدلوا بها على تحريمه من كتاب الله تعالى وسنة نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قالوا أن فكرة تحديد النسل معارضة لأساس العقيدة الإسلامية لقولهم أن الزيادة البشرية ستؤدي إلى الانفجار السكاني، وهذا معناه أنهم يقولون للإله سبحانه وتعالى لقد أخطأت التقدير وأسأت التدبير فلم تعد الأقوات التي خلقتها كافية للناس ولا الأرض بمتسعة لهم وهذا معارض لنصوص القرآن الكريم التي أكدت علم الله الشامل وتدبيره المحكم وتقديره لأقوات العباد وأرزاقهم ومعرفته بالأرحام وما حملت؛ قال تعالى ** وما كنا عن الخلق غافلين } [المؤمنون: 17]، وقال سبحانه {إنّا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]، وقال أيضاً ** قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيامٍ سواءً للسائلين } [فصلت: 9،10].
وقالوا أن فكرة تحديد النسل معارضة لمقاصد الإسلام وأهدافه كما بينا من قبل لأن الإسلام يأمر ويحث على زيادة النسل الذي هو من أهم مقاصده.
أضرار تحديد النسل :
(أ) انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده هو خوفه من الله تعالى أولاً وخوفه من العار ثانياً، فإذ لم يكن هناك خوف من الله تعالى، فإنّ انتشار وسائل منع الحمل وسهولة الحصول عليها يذهب الخوف من العار، حيث تأمن المرأة على نفسها من الحمل واكتشاف أمرها.
(ب) وبانتشار الزنا تنتشر الأمراض الفتّاكة الخبيثة كمرض الأيدز والزهري والسيلان وغيره.
(ج) انتزاع جلباب الحياء وفساد الأخلاق وضياع الأنساب وضعف الروابط بين الأسر.
(د) نقص الأيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل، ممّا من شأنه إضعاف قوة الدفاع عن هذه الأمة.
(هـ) ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين لعدم وجود الأولاد أو لقلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداءً أو تقف بالتناسل عند حد معيّن.
(و) ضياع نظام الأسرة وكثرة حالات الطلاق ما دام الشاب يجد حاجته من الفتاة متى شاء وما دامت وسائل منع الحمل تستر أمرهما إن كان لا زال يوجد عندهما شيء من الحياء.
(ز) أثبت العلم أنه يَنْجُب عن تحديد النسل مضار على الرجل والمرأة، منها سقوط الرحم في حق المرأة، وكذلك تصاب بالانهيار العصبي والقلق والأرق والتوتر والصُداع وشلل اليدين والرجلين وفساد الذاكرة، وأحياناً تصاب بالجنون؛ أما بحق الرجل فيقول الأطباء أنه يصاب بالاختلال في نظامه الجسماني والضعف في قوته التناسلية كما يُصاب بالقلق [أنظر تفصيل ذلك في كتاب " حركة تحديد النسل " ص82، وأبحاث هيئة كبار العلماء ج2 ص439،440].
تنظيم النسل :
لقد اختلف العلماء في حكم تنظيم النسل لاختلافهم في فهم الأحاديث المتعلقة بحكم العزل، فقد صحت أحاديث في إباحته منها حديث جابر رضي الله عنه قال: ( كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فبلغه ذلك فلم ينهنا ) [متفق عليه واللفظ لمسلم].
ورُويَت أحاديث أخرى هي عمدة الخلاف بين العلماء، ولكن منهم من قال بنسخها ومنهم من استدل بها.
من تلك الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن العزل فسماه بـ " الوأد الخفي " [رواه مسلم].
لذلك اختلف العلماء إلى أقوالٍ كثيرة، فمن رأى نسخها قال بجواز تنظيم النسل استدلالاً بالأحاديث التي تبيح العزل، وقيده بعضهم ببعض الأعذار التي تتعلق بالمرأة كالمرضع والتي لا تولد إلاّ بشق البطن. ومنهم من قال أنّ الأمر متعلقٌ بالزوجة فيجب استئذانها في جميع ذلك؛ ومنهم من قال أن مرد ذلك كله للرجل.
وأما الذين ذهبوا بالقول إلى عدم نسخ تلك الأحاديث فقد حرّموا تنظيم النسل مطلقاً وقالوا أن الله تعالى أرحم بخلقه منا فيهب لمن يشاء ويمنع من يشاء.
بعد استقراءٍ للموضوع من جميع جوانبه يتبين أنّه -والله أعلم- لا مانع إن شاء الله تعالى من تنظيم النسل لمن أراد أن يتم الرضاعة لسنتين مثلاً، أو إن نصح طبيبٌ مسلم بتحديد مدة تمنع المرأة أن تحمل خلالها لسبب من الأسباب الشرعية كمن لا تولد إلاّ بشق البطن مثلاً؛ والعمدة في ذلك قوة الأدلة التي تبيح العزل ولفعل الصحابة الكرام لذلك ..
وبه أفتى الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنه جلس إلى عمر، علي، والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى، فقال على رضي الله عنه : ( لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع حتى تكون من سلالة من طين؛ ثم تكون نطفة؛ ثم تكون علقة؛ ثم تكون مضغة؛ ثم تكون عظاماً؛ ثم تكون لحماً؛ ثم تكون خلقاً آخر ) ، فقال عمر رضي الله عنه : ( صدقت أطال الله بقاءك ) . [رواه أبو يعلى وغيره]
ولما أن جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجل -أي يريد لذة الجماع ولا يريد منها الولد- وإن اليهود تحدّث أن العزل الموءودة الصغرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعتَ أن تصرفه )) ، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : (( إن ذلك لا يمنع شيئاً أراده الله )) ، فجاء الرجل نفسه مرة ثانية فقال: يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا عبد الله ورسوله )) . [رواه مسلم].
فتاوى العلماء في تحريم تحديد النسل :
من هذه الفتاوى قرار مجمع البحوث الإسلامية المنعقد سنة 1965 بمصر والذي جمع أكثر من مائتي عالم من مختلف الدول الإسلامية [أنظر إلى الفتوى بتمامها في كتاب "الإجهاض بين الطب والدين" للشوادفي ص64].
ومنها قرار مجمع الفقه الإسلامي بالكويت المنعقد في 15/12/1988 [أنظر الفتوى في نفس المصدر ص121].
ومنها قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة [أنظر الفتوى في نفس المصدر ص123].
ومنها فتوى هيئة كبار العلماء الصادرة بتاريخ 13/4/1396هـ وقد شدّدت هذه الفتاوى على حرمة ذلك وخصوصاً إذا كان سبب منع الحمل الخوف من الفقر أو من مظنّته، فقد قال تعالى **..ولا تقتلوا أولادكم من إملاق..} أي من الفقر، وقال سبحانه أيضاً ** ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق..} [الإسراء: 31] أي خشية الفقر لأن الله سبحانه وتعالى **..هو الرزاق ذو القوة المتين}.
هذا ما يسّر الله لي كتابته، فإن وفقت فالفضل والمنة لله وحده وإن أخطأت فمني ومن الشيطان والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم منه براء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين