[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]من مقتنيات متحف إدلب
رُقيم مسماري من إبلا
يعتبر العصر البرونزي القديم في الألف الثالث قبل الميلاد، بدء تشكل البنى الثقافية والسياسية المميزة لحضارات الشرق القديم. وقد عرفت بلاد الشام عصرئذٍ، انتشار العديد من التجمّعات السكنية، الممتدة بين جبال الأمانوس وصحراء سيناء والجزيرة والفرات الأدنى. وتميزت تلك التجمّعات بتجانس أملاه الوضع الجغرافي والدور التجاري وعوامل طبيعية، ثم تاريخية أسهمت في ظهور حضارة المدن في بداية الألف الثالث قبل الميلاد. وكان من أشهر ممالك ذلك العصر مملكة إبلا. وتجدر الإشارة إلى المراكز الحضارية المختلفة، التي أظهرتها التنقيبات في قلعة حماة. والمشرفة (قطنة)، ورأس شمرا (أوغاريت)، وتل الكزل (سيميرا)، وتل عطشانة (الألاخ) وتل مرديخ (إبلا)، وتل طوقان المجاور، وتل براك، وتل ليلان (شوبات إنليل)، وتل الخويرة، وتل قرقر وتل أم المرا وتل النبي مند، وموقع الصّور في شرقي حمص، وفي مدينة حلب وقلعتها، وفي حوض الفرات مثل: تل الحريري (ماري)، وتل العشارة (ترقا)، وتل البيعة (توتول) وغيرها.
والجدير بالذكر أن وجود الأسوار المنيعة لا يدل دائماً على وجود مدينة، لأن المستوطنات المسوّرة عرفت منذ العصر الحجري الحديث (النيوليت) في أريحا في فلسطين، وفي طور أوروك من الصهر الحجري-النحاسي (الكالكوليت)، مثل موقع حبوبة الكبيرة الجنوبية في حوض الفرات الأوسط، كما أنه ليست كل قرية كبيرة نمت ديموغرافياً تعتبر مدينة، وإن كان فيها معبد ومظاهر تطوّر فني وحرفي، لأن القرى الكبيرة عرفت أيضاً في العصر الحجري الحديث (النيوليت) مثل: بقرص قرب دير الزور، وفي طور أوروك مثل: حبوبة الكبيرة الجنوبية.
كانت المدن في الألف الثالث قبل الميلاد تحيط بها الأسوار، وتتصف بالاتساع وتعدّد الإنتاج وممارسة التجارية الإقليمية أو الدولية، ومتابعة الارتقاء الفني والفكري، وأهم من ذلك كله امتلاكها الإدارة السياسية المنظَّمة، ووصولها إلى مستوى معين من الحكم والحكام، مما كان يضفي عليها شكل مدينة ـ دولة لها سلالات (أسر حاكمة) ـ ويتضح فيها الاختصاص بين القصر والمعبد، ولها سجلات ومراسلات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]من مقتنيات متحف إدلب
رُقيم مسماري من إبلا
وعلى كل حال، فإن العامل أو العوامل الحاسمة في نشاط المدن، يمكن أن تكون في معرفة المعدن والكتابة وتطوّر التجارة، حيث إن معرفة المعدن عدّدت الاختصاصات الحرفية وطوّرت التجارة للبحث عن المواد الأولية، محلياً ودولياً. فنشطت المراكب عبر الأنهار والبحار والقوافل براً، وأسهم العمل التجاري في تطور الكتابة وانتشارها. وإن نشوء المدن الهامة وتمركز الحكم والإنتاج والخيرات، مما تطلّب تحصينه لحمايتها من أخطار غزو محتمل من المدن المنافسة أو التجمعات الأخرى وغيرها. ومن أمثلة الاهتمامات الدفاعية، تُذكر مدينة ترقا (موقع العشارة على الفرات)، التي بنت في الألف الثالث قبل الميلاد شبكة دفاعية قلّ مثيله في سورية وبلاد ما بين النهرين.
ومن أمثلة اتساع المدن وقتئذٍ، تل ليلان (شوبان إنليل) في الجزيرة السورية، حيث اتسعت المدينة في السوية الثانية (في حوالي 2500ق.م) حوالي ست مرات (من 15 هكتاراً إلى 90 هكتاراً)، وأصبحت إحدى المدن الكبيرة المسوّرة في غرب آسيا، كما اتسعت مدن تل براك وتل الخويرة وتل مرديخ «إبلا».
وبما أن مدينة إبلا كانت ذات دور خاص ومتميّز بين الفرات وغربي سورية، وبين طوروس وسورية الوسطى، في فترة ازدهار حضارة المدن، وبما أن التنقيب فيها شمل السويات المهمة، وبما أن محفوظاتها الملكية هي شبه تامة، لهذا فإن من المناسب دراستها كثل على «مدينة-دولة» في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد في سورية.
إن أقدم ذكر لاسم إبلا، ورد في نص من عهد سرجون، ملك أكاد حوالي عام 2340-2284ق.م. وذلك بمناسبة حربه ضدها. ثم يذكر حفيده نارام سين (2260-2223ق.م)، أنه هدمها مع مدينة أرمان ، ويتفاخر بأنه استولى على مدينة لم يأخذها أحد قبله منذ وجدت الخليقة.
وفي القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد، يذكر جوديا ملك لجش (تللو الحالية في العراق) استيراد الخشب من مدينة أورشو في هضبة /إبلا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]مملكة إبلا
وفي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد ورد ذكر اسم إبلا في نص من عهد مملكة أور الثالثة، وكانت إبلا آنئذٍ قد أخذت تنتعش بعد خرابها، كما ذكر اسم إبلا في حوالي ذلك التاريخ في نص يعود إلى سلالة «إيسين»، الأكادية العمورية، في بلاد ما بين النهرين. وفي عهد الملك حمورابي البابلي (حوالي نهاية القرن الثامن عشر قبل الميلاد)، تبعت إبلا مملكة حلب. وهناك ذكر تزاوج بين الأسرتين المالكتين في إبلا، والألاخ (تل عطشانة في لواء الاسكندرونة السليب).
وفي حوالي 1600 قبل الميلاد ضعفت إبلا وتهدّمت، نتيجة غزوات الحثيين (في عهد حتوشيل الأول ومورشيل الأول). وفي القرن الخامس عشر قبل الميلاد ورد ذكر اسم إبلا في عهد تحوتمس الثالث، الذي عنها في أحد النصوص المنقوشة على عمود في معبد الكرنك في الأقصر.
في عام 1955، عثر على حوض أثري بازلتي في تل مرديخ، قرب بلدة سراقب، على بعد خمسة وخمسين كيلومتراً جنوبي غرب حلب، وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد، شرق طريق حلب-حماة. وقدمت لجنة من مديرية الآثار السورية، تقريراً عن الموقع، يشيد بأهمية هذا التل الأثري، الذي اعتقد بأنه ربما كان موقع مدينة تونيب، عاصمة الحثيين، المذكورة في رقم بوغازكوي. ورد في التقرير أيضاً اقتراح إجراء بعض الأسبار والحفريات في التل.
وفي عام 1963، حصلت بعثة تنقيب إيطالية بإدارة «باولو ماتييه» على رخصة التنقيب الرسمية باسم معهد دراسات الشرق الأدنى في جامعة روما في تل مرديخ وتل آفيس المجاور، فباشرت أعمال التنقيب في تل مرديخ عام 1964. وفي موسم عام 1968 بدأ التعرف على اسم هذا الموقع الأثري في تل مرديخ بعد اكتشاف تمثال في السوية الأرضية العمورية في معبد الربة عشتار أقامه «ابت ليم بن أجرش خب» ملك إبلا؛ فأصبح واضحاً بعد هذا الاكتشاف، أن المدينة الجاثية في تل مرديخ هي مدينة «إبلا» المفقودة.
واكتشفت البعثة الأثرية في عام 1973 القصر الملكي لسلالة إبلا الأولى في الألف الثالث قبل الميلاد. وفي شهر آب عام 1974، ظهر أربعون رُقيماً مسمارياً، وفي عام 1975 أظهرت التنقيبات بقية الرقم بالمئات، ثم استكمل اكتشافها في عام 1976.
إن تل مرديخ يعتبر من تلال الدرجة الأولى، مساحته 56 هكتاراً، ويتميّز بموقع استراتيجي وزراعي هام. وتدل النصوص على أنه كانت هناك قديماً أحراج في منطقته.
ولا يعرف متى أُطلق اسم «إبلا» على هذا الموقع الذي يعود ـ على الأقل ـ إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وإن أقدم الفترات السكنية المعروفة فيه، تعود إلى النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، وأن الطبقات الأثرية المتتابعة فيه هي ـمن الأدنى إلى الأعلى ـ كما يلي:
ـ السوية الأولى: من النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد حتى حوالي 2900ق.م، وتغطي أواخر طور العبيد وطور أوروك وجمدة نصر.
ـ السوية الثانية: من الألف الثالث قبل الميلاد، طور ما قبل السلالات المبكرة، والسلالة الأكادية، وسلالة لجش وأور الثالثة في بلاد ما بين النهرين. وتقسم إلى ثلاثة أطوار تقابل العصر البرونزي القديم الأول حتى الثالث والرابع (آ) و(ب).
ـ السوية الثالثة: من حوالي 2000ق.م إلى حوالي 1600ق.م، وكانت قد أتت هجرة العموريين الكنعانيين إلى سورية وبلاد ما بين النهرين وتشكلت دولهم. وتقسم فترة هذه السوية إلى طورين، يعادلان عصر البرونز الوسيط الأول والثاني.
ـ السوية الرابعة: من حوالي 1600ق.م إلى حوالي 1200ق.م، وتقسم إلى طورين، يقابلهما عصر البرونز الحديث الأول والثاني.
ـ السوية الخامسة: من حوالي 1200ق.م حتى القرن السادس قبل الميلاد. وكانت قد تأسست الممالك الآرامية والدولة الآشورية والكلدانية، وتشمل عصر الحديد.
ـ السوية السادسة: من سقوط الدولة الكلدانية عام 539ق.م حتى نهاية حكم السلوقيين عام 63ق.م.
ـ السوية السابعة: تعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي، فيها بعض القبور.
وعلى الأسوار عند مدخل تل مرديخ، كتابات عربية إسلامية كوفية من العصر الأموي، تثير التساؤل فيما إذا كانت تواكبها طبقة سكنية، تعود إلى ذلك العصر، علماً بأن الموقع غير بعيد عن قنسرين في ذلك العصر (جند قنسرين).
كان يتوسط مدينة إبلا، حيّ مرتفع يضم القصر، أو القصور الملكية وبعض المعابد وأهمها معبد عشتار المجدّد في الألف الثاني قبل الميلاد، والمراكز الإدارية التابعة للقصر، وكانت تحيط بالمدينة أسوار ضخمة ترابية مكسوّة بالحجارة. وكان للمدينة أربعة أبواب تدعمها أبراج. وفي المدينة المنخفضة أحياء سكنية تتخلّلها مساحات، ربما كانت تستخدم كبساتين، وتتوفّر فيها الآبار، وكان المطر يجمع في صهاريج.
ومنذ عام 1973 يجري التنقيب الأثري في السطح الغربي لأكروبول التل، فاكتشفت منشآت الحي الرسمي من الألف الثالث قبل الميلاد وأهمها القصر الملكي، المتميّز بخصائص معمارية محلّية، فيه قسم إداري مستقل، وقسم خاص بالملك، وتتوسّطه باحة العرش، يحيط بها رواق كان يقوم على أعمدة خشبية. وفي الطرف الشمالي من الباحة منصّة يُصعد إليها بدرج صغير، وكانت مخصّصة لجلوس الملك عليها واستقبالاته الرسمية. وفي صدر الباحة باب درج، يؤدّي إلى حجرات القصر الداخلية. وكان المهندسون المحلّيون قد أخذوا بعين الاعتبار عوامل البيئة ومتطلبات الإنسان من العمارة في سبيل الحياة السعيدة، وقد استمرّت هذه التقاليد المعمارية حتى الآن في البيت العربي.
وفي غربي القصر العائد إلى الألف الثالث قبل الميلاد، بُني قصر جديد في العصر العموري (حوالي 1800-1600ق.م)، وأظهرت التنقيبات ثلاثة مدافن، محفورة في الصخر، تضم عشرات الأواني الفخارية، ونماذج من الأسلحة والحلي النادرة.
وتفيد المكتشفات الأثرية في «إبلا» في معرفة الفنون والمهن المحلية، مثل النسيج العادي والمذهب والصياغة والتنزيل والنقش والنحت والفخار... وغيرها، كما ألقت الضوء على العلاقات الاقتصادية بين سورية والأقطار المجاورة.
وفي إحدى حجرات القصر العائد إلى الألف الثالث قبل الميلاد «القصر-ج» أظهر التنقيب عام 1974-1975 جميع السجلات الملكية المتساقطة من رفوفها الخشبية والمتصلِّبة بنيران الحريق. ويبلغ تطول بعض هذه الرقم نحو 40سم، ويبلغ عدد الرقم السليمة والمجزأة نحو ست عشرة ألف قطعة أو أكثر. وعلى هذه الرقم كتابات بالخط المسماري السومري، وتبين أن محتواها هام من حيث وفرة المعلومات وتنوّعها. فهي تتعلَّق بالتجارة الدولية والأوامر الملكية، وسياسة الحكومة وتصرفاتها، وتقارير المسؤولين عن مشاكل الدولة الداخلية والخارجية، وهناك وثائق معجمية ونصوص أدبية وملاحم ورقى سحرية..؟.
وتتماثل لغة إبلاـ في رأي بعضهم ـ مع اللغة الأكادية، وفي رأي الآخرين مع الكنعانية، ولاسيما مع اللهجة الأوغاريتية والفينيقية، وهناك من يسمّيها «اللهجة أو اللغة الإيبلية أو الإبلائية». وإن نصوصها أقدم من النصوص الأكادية بنحو جيلين. وغدت هذه الوثائق المكتشفة في إبلا، مصدراً أساسياً لدراسة تاريخ الشرق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد، وقد زوّدتنا بأسماء ستة من ملوكها، يؤلفون سلالة حاكمة وهم: 1- إجريش حلم. 2- اركب دمو. 3-أرانيوم. 4- أبريوم. 5- أبي ريش. 6- دبو جوادا. وفي عهد «دبو جوادا» سقطت إبلا في يد نارام سين الأكادي، حفيد الملك سرجون.
وكانت إبلا مركز قوة سياسية كبرى، هيمنت على ممالك أخرى مثل ماري وحلب. وكانت قوتها مستمدة من حيوية اقتصادها. وكان تجارها يجوبون البلاد من الأناضول إلى فلسطين، ومن البحر المتوسط إلى بلاد ما بين النهرين. وتذكر النصوص التجارية، المكتشفة في إبلا، أسماء مدن قديمة وبلاد كثيرة، أغنت معارفنا الجغرافية عن العالم القديم في الألف الثالث قبل الميلاد. ومن هذه المدن القديمة المذكورة في رقم إبلا: ماري/تل الحريري، إيمار، مسكنة، كركميش/جرابلس، حران/حلب، أوغاريت/رأس شمرا وغيرها، هذا في الشمال. وفي الجنوب إرم وجبيل وبيروت والقدس وغزة.....
وفي سبيل التجارة، حاربت مملكة إبلا مملكة ماري، وانتصرت عليها مرتين، كما تنازعت مع مملكة أكاد على معادن الأناضول وخشب جبال الساحل السوري، وكانت الحرب سجالاً بينهما حتى يوم تدميرها من قبل نارام سين ملك أكاد في حوالي عام 2250ق.م.
وذكرت الرقم المكتشفة في إبلا نصوصاً إدارية ذات صفة حقوقية ودبلوماسية، ويتعلّق بعضها بوثائق المحاسبة الإدارية، وتوضّح التنظيم الحكومي وإدارة المقاطعات والتنظيم المالي للدولة في جباية الضرائب وغيرها.
إن اكتشاف إبلا، يعتبر أهم اكتشاف أثري ظهر في الأعوام الخمسين الماضية. ولكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أهمية اكتشاف أوغاريت/تل رأس شمرا، وماري/تل الحريري.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]