ك عادتها كل مساء وقبل ان تخلد للنوم ..جلست على ذاك المقعد الذي لا تفضل سواه .. واحتضنت بيدها اليمني كوباً من اللبن الدافيء الذي يشبه لون وجهها الأبيض المشرب بحمرة طفولية الملامح ..
أرتشفت القليل من اللبن الدافيء وأغمضت عينيها (العسليتين الجميلتين ) محاولة الصعود إلي الشفق الأبيض البعيد لتسكن هناك ولو لبضع ثوان تنسي فيها كل ما يحيط بها من ألم ..
لكن.. سرعان ما سقطت على أهدابها رعشة باردة جعلتها تستفيق من ذلك الحلم الجميل وتقطع تلك الرحلة القصيرة .. فـــ أخرجت زفــرة طويلة سكنت السحب الداكنة فنظرت إليها في غِبْطة وقالت .. ليتني كنت زفرة يتيمة تحلق في الأفق وتسكن المجرات وتجوب الأجواء البعيدة وابتسمت فى صعوبة وأدركت أنها بقايا أمل ليس إلا ..
تحركت في هدوء حيث تسكن أوراقها وبقايا أحلامها ومحبرتها , وفرشاة طالما لونت دفاتر أيامها .. وأمسكت بالفرشاة واتجهت نحو تلك اللوحة المهملة منذ شهور وحاولت برفق ان تزيل بعض الأتربة العالقة علي حدودها وشكلها الخارجي ..
وتطايرت الأتربة وملأت المكان وحجبت الرؤية لبعض الوقت وغاصت هي بداخلها في قلق تبحث عن مدينتها الواسعة وحديقتها الغنّاء وبعض لحظات السعادة التي سكنت بين رتوشها وألوانها .. وشعرت بالخوف والقلق الشديدين علي مدينتها الوردية من أن تكون قد تحولت إلى خراب ودمار و ظلمة من هذا الغبار وقسوته .. أمسكت بالفرشاة واختلست من عمرها الصامت دقائق أكثر صمتاً.. وهمست في الألوان وداعبت وجه اللوحة واقتربت من مدينتها التي تحب .. وغمست فرشاتها في محبرة الألوان وقامت بالرسم والتلوين وأعادة الحياة بداخل تلك البقعة الصامتة ونقشت بأناملها زهرة ياسمين ناعمة تغفو على صدرها فراشة جميله ترتدي ثوباً مزركش جذاب لها جناحين شفافين رقيقين ,التحفت ب أوراق الياسمين بعدما ارتوت من رحيق شذاها وشدت بصوت السَحر لحن من خيال .. ف عانقتها زهرة الياسمين وتأرجحا سوياً فوق غصن الحنين وتمايلا على أنغام عزفت علي أوتار نبضها وضحكت هي بسعادة من أفعالهم الشقية وبصوتٍ غير مسموع نادت عليهما .. أن يفتحو لها باب السعادة لتسامرهما ليلتهما وتشاطرهما تلك الأمسيةالمخملية وتبتاع منهما لحظات لا تباع .. وأنتظرت وأنتظرت وأنتظرت لثوان تحمل بين طياتها أعوام .. وفجأة أهتزت لوحتها وأخرجت صوت هدير ماؤها وخريرشلالاتها ونقيق الضفضع ..وهديل الحمام الناعس ..وحفيف الاشجار وأنسام الهواء ..ودبيب النمل ..وزقزقة العصافير
لقد تأهبوا جميعاً بشوق وشغف تسبقهم مشاعر اللهفة والاحتواء .. ليضموها بين حنايا أضلع الليل الدافىء وأجنحة السماء الحانية ..
استجمعت هي كل قواها الخائرة وتوثبت كل حواسها الهاربة وسرت بيدها رعشة قوية أجبرتها على ترك فرشاتها وكوبها على حافة المنضدة بلا اكتراث وقفزت إلي داخل لوحتها الورقية الهلامية التي سرقتها حيث عالم ألا وجود
ووجدت الجميع فرحوا بقدومها وأحسنوا استقبالها وتوددت إليها فراشتها ذات الثوب المزركش الشفاف ومنحتها ثوباً قرمزياً جميل فقامت على الفور بارتدائه ,, وصارت فراشة قرمزية اللون رشيقة الحركة سريعة الطيران تركض هنا وهناك وترتفع من على الأرض لتصل إلى عنان السماء وتقفز من زهرة إلي أخرى لتتنفس رحيق الحياة بين أوراقها وتتذوق طعم السعادة بين خلاياها ..
ظلت تتجول هنا وهناك وتجوب ألاماكن المرتفعة وتعانق هامتها السماء وتتوشح بضوء القمر وتحلق حوله وتتوهج كالسراج مبددة ظلمة لياليها السجينة بنور الأمل وتمحو من ذاكرتها الأليمة سنوات عجاف طويلة قد مضت وترسم البسمة على محيا الزمن الحزين لتشرق شمسه من جديد ..
لكن..!! لم تكتمل سعادتها لثوان ..
لقد ..
أكفهرت السماء فجأة وأرعدت وأبرقت وكشفت عن وجه الحقيقة الذميم .. وأمطرت حتى أغرقت المدينة ..
وأبتل ثوبها وغاصت بقدميها فى بحور من وجع وحاولت الصعود مراراً من قاع الواقع الضيق إلى قمة الوهم الشاسع المغدق .. لكنها لم تستطيع أن ترفع قدميها قيد أنملة وتكسرت أجنحتها الرقيقة وسقطت فوق حافة العجز الحادة ونظرت حولها لتبحث عن من ينقذها وينتشلها من بين براثن الظلام ولُّجِّيٍّ الدمع .. لكنها رأت فراشتها وياسميناتها البيضاء قد غرقتا وصارتا جثتين طفتا فوق سطح الماء .. ودعتهما بحزن عميق وأخذها حنين جارف حيث أمسيتها معهم التي لم تبدأ وحلمها الذي لم يكتمل .. واسترقت السمع لوهلة باحثة عن تلك الأصوات التي سكنت لوحتها لكنها أدركت أنها مجرد تمتمات صدي انبثقت من خربشات فرشاتها
حاولت العودة على مضض إلى عالمها الذي يرفضها وحجرتها التي قد ضاقت بها وذاك المقعد الذي كبلها وسجن أحلامها بداخله وصار رفيق آلامها وأنيس وحدتها وصديق لا يعرف الغدر وحبيب لا يعرف الملل .. تنفست بعمق وفتحت عينيها ودلفت وهي تحبو بإحساس طفلة إلى داخل حجرتها بعد ما كسرت حاجز الوهم وتهالكت على مقعدها الذي لم تفارقه إلا في خيالها ألا محدود
ونظرت حيث لوحتها العتيقة فوجدتها أخري قد تبدلت شوهتها الجراح المثخنة ولوثتها أتربة السنين وسكبت المحبرة فوق رتوشها وأخفت معالم الخيال والجمال فيها
وتحولت حجرتها من عالم فوضوي صاخب تكسوه السعادة والحركة إلى عالم منسق وصامت وفاتر يكسوه الحزن والسكون نظرت في هدوء يحمل بين طياته بركان ألم لا يخمد حيث يوجد مقعدها الذي التهم من عمرها الكثير وتحمل نفورها منه دائما وأبدا بلا تأفف أو ضجر وتمنت أن تطير وتحلق فوقة ولو ثوان وتسقط وتسقط وتعاود الطيران لكن برغم قدرتها على الأحلام ظلت تتمتع بكثير من الواقعية الصماء
تنفست بعمق وقالت فى صمت ..
ليست القدرة في الطيران ولا العجز في السقوط بل القدرة في إثبات ألذات والعجز هوالاخفاق في معالجة أسباب السقوط ..
ومضة
هناك جراح تسكن القلوب وتلوثها أتربة الزمن العالقة بجداره الخشن حتى تتقيح وتنبت الندوب الدامية التي تحتاج الى وقت طويل كي تلتئم وتندمل وقد لا تتلتئم مهما طال الزمن ومهما احتسي هذا القلب من أدوية وعقاقير فلا يمكن إزالتها وستبقي كما هي حتى بعد الموت ..