- والله العظيم لقد سمعت أبي يقول ذلك وهو يكلم عمي على الهاتف.. والله العظيم!
سقط الكتاب الذي كنت أدرس فيه من يدي لا إرادياً.. ووقفت مصدومة لا أعرف ماذا أقول.. - لا يمكن.. إنها لم تمض هناك سوى شهراً واحداً فقط.. لماذا تعود بسرعة.. يا ربي!
أخرجت أريج كيساً من الشيبس من دولابها وبدأت تقرض فيه كالفأرة بصوت مقرمش مزعج وهي تبحث بين ملابسها عن شيء ما بلا مبالاة بينما كنت غارقة في دوامة من التفكير.. كان الحزن يتوشحني لدرجة أني لم أستطع حتى أن أتكلم.. فأنا أعرف جيداً ماذا يعني قدوم جدتي إلينا.. في المرة الماضية حدثت مشكلة كبيرة بين أبي وأمي بمباركتها.. وكادت أمي أن تطلق بسببها.. وعادت جدتي لمنزل عمي في جدة وقد حلفت ألا تدخل بيتنا مرة أخرى... فكيف الآن تعود.. يا الله..! إن الاختبارات على الأبواب.. فما بالها تأتي الآن لتسحب معها المشاكل..
- عنود!! هل أخذت علبة عصيري؟ - اغربي عن وجهي.. هل هذا وقته..
- أقول هل أخذت عصيري؟ شعرت برغبة في أن أضرب أريج لكني تمالكت نفسي فلست في حاجة لمزيد من المشاكل في هذه الفترة.. تعوذت بالله من الشيطان الرجيم.. ثم قلت وأنا أضغط على أسناني.. - أريج!.. لم أر علبة عصيرك.. أحلف لك!.. أرجوك اتركيني لوحدي واخرجي من الغرفة فرائحة البطاطس بالكاتشب هذه تشعرني بالقرف..! مدت أريج لسانها المليء ببقايا الشيبس عليّ وخرجت أخيراً.. فأغلقت الباب خلفها..
يا ربي.. والله.. لقد تعبت.. لا أحد يشعر بي ولا بألمي.. الجميع يعيش على أعصابه في هذا البيت المليء بالمشاكل.. أمي والخادمة.. مشاكل وصراخ.. أبي وأمي.. مشاكل وصراخ.. أمي وجدتي.. أبي وأخي.. أنا وأختي.. كلنا.. تسود علاقتنا المشاكل والصراخ.. لقد تعبت.. دائماً نعيش في خوف وقلق.. دائماً نترقب وقت دخول أبي بمنتهى الخوف والتوجس حتى لا تثار أية مشكلة من قبل أي طرف معه.. نموت خوفاً حين يبدو الغضب على أبي.. ونموت خوفاً حين تبدو الدموع في عيني أمي.. ونموت خوفاً حين نسمع جدتي وهي تصرخ على أبي.. يا الله.. متى.. متى أتزوج وأترك هذا البيت الكئيب وأرتاح.. لقد سئمت وتعبت.. أخذت أبكي بحرقة.. وفجأة سمعت الباب يطرق.. جففت دموعي وعدلت من هيئتي وأسرعت أفتح الباب.. كان أبي.. قال لي بلهجة صارمة.. - ماذا تفعلين؟ - لا شيء.. أدرس.. - اتركي دراستك الآن.. واذهبي لتجهزي غرفة جدتك.. نظفيها جيداً.. وأحضري منقلة جدتك من المخزن.. وجهزي لها الأغطية الصوفية.. هيا بسرعة.. فأمك مزاجها معكر اليوم.. ابتلعت ريقي بصعوبة.. كان غاضباً جداً.. وبدا أنه قد بدأت مشكلة بينهما قبل قليل.. لابد أن أمي تبكي الآن.. يا الله..! نزلت بسرعة وأنا أشعر أني أحمل الدنيا على رأسي.. وأثناء تجهيزي للغرفة.. كنت أفكر.. يا ترى.. من هو السبب؟.. من سبب المشاكل التي نعيشها.. أهي أمي العنيدة الهادئة.. أم أبي العصبي الغضوب.. أم جدتي اللحوحة الكثيرة التذمر والشكوى.. أم.. من؟ لماذا لا نكون مثل الآخرين.. مثل بعض الأسر التي تعيش في سعادة وهناء وراحة.. تحيا في تناسق وانسجام ومحبة..؟ واستغفرت الله في سري.. فما كان لي أن أعترض على قضائه وقدره.. الحمد لله على كل حال..
× × ×
وفي المدرسة.. كان شبح المشاكل الرهيب يدور حولي طوال اليوم.. كنت أفكر في الفيض القادم من المشاكل والذي سيهطل كالعادة مع قدوم جدتي.. ولم أستطع أن أركز في أية كلمة قالتها أية معلمة.. - العنود.. يا دبة.. ألن تنزلي للفسحة معنا؟ - كلا شكراً.. أشعر أني متعبة.. سأجلس اليوم في الفصل.. - بلا سخافة!.. (تتدلعين) علينا؟! كنت فعلاً متعبة نفسياً وأنا أفكر في تلك المشاكل الرهيبة القادمة.. فلم أرد على تهاني.. كنت أعلم أنها فتاة مزوح لا يمكن لأحد أن يجالسها ويتوقف عن الضحك.. وأنا لم أكن مستعدة لها اليوم.. توقعت أن تخرج بسرعة.. لكنها اقتربت مني.. ونظرت إلي بهدوء.. ثم جلست قربي.. - العنود.. ما بك؟ لست طبيعية اليوم.. - لا شيء.. متعبة قليلاً.. - كلا!.. عيناك تقولان أن هناك شيئاً في البيت.. - كيف عرفت؟ - أشعر أني أعرف هذا الشعور.. - أنت؟ - نعم أعرفه جيداً.. كانت تهاني تتكلم بهدوء لم أعهده منها من قبل.. لم أتوقع ذلك.. تهاني تعاني مثلي من مشاكل؟! سكتت قليلاً.. ثم قالت بلهجة ساخرة.. - يوووووه.. بيتنا مليااااان مشاكل.. نفكر نبيع منها.. - تهاني.. أنت لا تعرفين.. أبي وأمي بينهما دائماً مشاكل وشجار.. أبي دائماً يثير الخوف والقلق فينا.. وجدتي.. لا تعرفين مشاكلها وجو القلق والحزن الذي تجعله يسود البيت بسبب كلامها هداها الله.. نظرت إلي طويلاً وكأنها تفكر فيما إذا كانت ستقول ما تقوله أم لا.. - طيب.. ما رأيك؟.. أنا أبي.. يضرب أمي.. هل يضرب أبوك أمك؟ .. أبي يضربني حتى الآن.. هل يضربك أبوك؟.. وخذي هذه.. أبي طرد أخي من البيت منذ شهرين ونحن لا نعرف عنه شيئاً حتى الآن.. ما رأيك؟ هل لديك مثل هذه المشاكل؟ لدي الكثير غيرها إن أردت.. صمت وأنا منذهلة تماماً مما قالته.. هل يعقل.. لا أصدق.. تهاني.. تعاني من هذه المشاكل.. ما أعرفه أن أمها هي وكيلة مدرسة.. وهي فتاة مرحة بشوشة.. لم أتصور أنها تعاني من كل هذا الحزن.. يا حبيبتي يا تهاني.. نظرت إليها بعطف وأنا غير مستوعبة لما قالته.. وحين شعرت أن الموضوع قد يأخذ طابع الحزن قالت فجأة بنبرة أعلى وهي تبتسم وتضرب على كتفي واقفة.. - لا يضيق صدرك.. عااااااااادي.. كل بيت فيه مشاكل من نوع مختلف.. احمدي ربك أنت أحسن من غيرك.. - الحمد لله.. - بعدين كل مشكلة فيها فائدة.. يعني شوفيني.. لو ما كان عندي مشاكل.. ما كان صار دمي خفيف عشان أضيع السالفة!! - يا سلام؟!.. رن الجرس معلناً انتهاء الفسحة.. فابتسمت لها وأنا أحمل لها حباً كبيراً.. وأثناء الحصة كنت أفكر.. فعلاً.. صدقت تهاني.. أنا أحسن من غيري.. فوالدي رغم كل شيء لا يضربنا.. ولم يضرب أمي يوماً.. وهو لا يحرمنا مما يستطيع توفيره لنا.. الحمد لله.. حتى مشاكل جدتي تهون عند مشاكل غيرنا..
× × ×
حين عدت إلى البيت.. كانت أمي قد وضعت الغداء للتو وقد حضرت جدتي.. سلمت عليها وجلست آكل بينما بدأت جدتي لمزاتها.. - الأكل مالح.. ما تدرين أنه فيني ضغط.. فردت أمي.. - والله يا خالة ما حطيت ملح إلا شوي.. - يعني أنا كذابة؟.. أقول مالح.. ما ينوكل! أكملت طعامي وقمت لغرفتي وأنا أردد.. الحمد لله.. مهما تكن من مشاكل.. فهي أهون من مشاكل غيري..!
** مجلة حياة العدد (44) ذو الحجة 1424هـ
- 13 -
ودفنت الدبة!
سحبت بخفة قطعة الشوكولاتة من يد روان وهي تشاهد أفلام الكرتون وهربت بسرعة.. فصرخت وأخذت تجري خلفي.. - يا الدبة! .. أرجعي قطعتي.. لقد أكلتِ أربع قطع..! لكني تجاهلتها وأسرعت أهرب منها وأنا أقضم الشوكولاته اللذيذة.. بينما انفجرت بالبكاء وأخذت تصرخ بغضب.. - انظري لشكلك.. ستنفجرين من كثرة الأكل أيتها الدبة!
أحسست بصفعة قوية.. فتوقفت.. كنت أعلم أنها تردد نفس الكلام كثيراً.. لكنها هذه المرة جرحتني حقاً.. أحسست أن لقطعة الشوكولاته طعماً مراً.. حتى بالكاد استطعت أن أبلعها.. وسقط ما تبقى منها في يدي على الأرض.. شعرت بأنني غبية وبليدة لأنني سمحت لنفسي أن أكون في هذا الموقف السخيف.. انسحبت بهدوء دون أن أنبس ببنت شفة.. ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب.. نظرت إلى نفسي بالمرآة.. يا الله.. ما هذا؟.. كيف تركت نفسي لأصل لهذه المرحلة من البدانة.. إن جسمي بلا ملامح تقريباً.. لا خصر ولا عنق ولا سيقان.. كل شيء متساوي.. كرة مستديرة من جميع الجهات.. يجب أن أنحف يجب.. لكن.. الأكل لذيذ.. وأنا أحب الحلويات.. لا أستطيع أن أقاومها.. لكن.. يجب أن أغيّر من شكلي الذي جلب لي كل الهموم والمشاكل.. وجعلني موضع استهزاء وتندر الجميع.. يجب.. وقررت أن أبدأ نظاماً غذائياً صارماً منذ الغد.. وبالفعل بدأت.. ولكن في المدرسة.. في الفسحة.. سألتني نور.. - دانة.. ماذا تريدين؟ كرواسان بالجبنة أم بالزعتر؟ - لا شيء.. كنت أتلمظ وأنا أتخيل شكل الفطائر.. - معقول؟ لا شيء أبداً.. على الأقل فطيرتين فقط..! ابتلعت ريقي بصعوبة.. ثم نكست رأسي للأسفل.. - حسناً.. وانقضضت بعد قليل على الفطيرتين والعصير.. ثم لم أقاوم فطلبت فطيرتين أخريين.. وأتبعتها بقطعة شوكولاته بالبندق.. وحين عدت للمنزل.. كنت أشعر بالخجل من نفسي.. فهذه ليست المرة الأولى ولا العاشرة ولا العشرين التي أبدأ فيها نظاماً غذائياً وأفشل فيه.. حين عدت للمنزل وخلعت عباءتي.. كانت أمي تصلي في غرفتها.. ذهبت وجلست على سريرها.. وحين انتهت.. نظرت إليّ.. - دانة.. ما بك؟ لم تلحي في طلب الغداء اليوم؟ - لا شيء.. أشعر بالكآبة.. - أعوذ بالله.. هل حصل شيء اليوم.. - لا.. فقط هكذا.. كانت أمي ترتب ثوب الصلاة وتلفه داخل السجادة.. أخذت أنظر إليها.. جسمها جميل.. لا أحد يصدّق أنها أمي.. فهي تبدو أصغر مني سناً.. أشعر بالخجل حين يراني أحد معها.. وفجأة قالت.. - زواج شيماء سيكون بعد بداية العطلة بأسبوع.. شعرت بالقلق والارتباك.. فأنا لم أتوقع أن زواج ابنة خالتي سيكون قريباً لهذه الدرجة.. - والله؟! - نعم.. اليوم قالت لي خالتك ذلك.. فهم لم يجدوا حجزاً إلا في ذلك اليوم.. سكتت أمي ثم تابعت.. - ليس أمامنا الكثير لنتجهز للحفل علينا أن نفصّل أو نشتري الملابس المناسبة فليس هناك سوى أربعة أسابيع فقط والمشاغل الآن مزدحمة جداً.. شعرت بالحسرة والحزن.. فأي شيء له علاقة بالملابس يصيبني بالكآبة ويعيد أحزاني ومواجعي.. أعرف كم تبدو ملابس السهرة مضحكة عليّ.. وأعرف كم أبدو سخيفة مقارنة بأجسام بنات أخوالي وخالاتي اللاتي يتقافزن كالغزلان.. لا.. لا أريد أن أكون نكتة الحفلة بكيلو غراماتي المائة.. لم يكن أمامي سوى خيار واحد.. أن أنحف.. نعم.. ساعدتني صديقتي دلال.. فأحضرت لي ورقة بها ريجيم كيميائي مذكور أنه يمكن أن ينحف أربعين كيلو.. وقررت أن أتبعه.. بدأت بالنظام.. وكنت أشعر بالتعب والإرهاق لكن لأول مرة في حياتي كان لدي العزيمة والمقاومة.. واستمريت طوال ثلاثة أسابيع.. حتى في أيام الاختبارات رغم أني في سنة ثالث.. كنت أختبر وأنا أشعر بالدوار الشديد.. وحين وقفت على الميزان.. كانت المفاجئة أني بالفعل قد نقصت خمسة عشر كيلاً.. يا سلاااام!! أصبحت أرتدي مقاسات أصغر بكثير.. لكن هذا الدوار كان يتعبني جداً.. وفي يوم الحفل.. كنت قد نحفت لكني لا أزال بدينة.. ولا يزال الفستان غير أنيق على جسمي المترهل.. وحين وصلت العروس وجلست وبدأت الأناشيد ودفوف الفرح.. صعدت لأسلّم على ابنة خالتي.. ومع تطاير دخان البخور.. وتعالى زغاريد الفرح والأصوات.. والإضاءة القوية.. شعرت بالدنيا.. تدور.. وتدور.. وسقطت قبل أن أصل.. سقطت أمام العروس.. بل عند قدميها وكأني أتيت لأقدّم نفسي قرباناً!!! كان منظري مضحكاً ومحزناً في نفس الوقت.. (مسكينة) (يا حرام داخت) سمعتها كثيراً تدور في أذني.. كنت كالغريقة.. أرى الناس يسبحون في عالم متحرك وبالكاد أفهم ما يقولونه.. أتت أمي مسرعة وسحبتني مع بنات خالاتي.. وفي إحدى الغرف الجانبية.. أتت طبيبة إسعاف لتكشف عليّ عندما طالت إغماءتي.. - يجب نقلها للمستشفى حالاً.. لديها هبوط حاد جداً في الضغط.. - ماذا؟ - يبدو أنها لم تأكل شيئاً أليس كذلك..؟ - يبدو ذلك فأنا لم أرها تأكل اليوم سوى الزبادي.. وأسرع والدي وخالي ينقلاني للمستشفى بعيداً عن الحفل الذي لم أستمتع به.. وفي المستشفى اكتشفوا أن لدّي فقر دم شديد وهبوط.. كما أن دقات القلب لدي غير منتظمة.. وهذا مؤشر خطر.. كما أن الريجيم الغير صحي سبب لي جفافاً.. وبقيت في المستشفى لمدة يومين حتى استعدت عافيتي.. وحين خرجت شعرت برغبة عارمة في الأكل وتعويض أيام الجوع السابقة.. كانت شهيتي مفتوحة بشكل ليس له مثيل.. وساعدتني أمي – هداها الله – بتقديم أشهى الأطباق لي بحجة تغذيتي.. وأصبحت لا أتوقف لحظة عن الأكل.. وامتلأ دولابي بالحلويات والبطاطس كما كان من قبل.. وخلال شهر واحد.. عاد وزني لسابقه.. ثم ازداد.. ازداد عشرون كيلو غراماً!! نعم أصبح وزني مع بداية الدراسة مائة وعشرون كيلو!.. وعرفت فيما بعد أن هذا أثر طبيعي لاستخدام الريجيم الكيمائي حيث يصبح الجسم قابلاً للزيادة أكثر مما كان.. فيزداد الوزن بعد الانتهاء منه بشكل غير طبيعي.. وانعزلت عن الحياة.. وأصبحت أكره الاجتماعات.. أكره السوق حتى لا أرى الملابس الجميلة وأنا لا أستطيع لبسها.. حتى الأحذية لم أعد أجد حذاءً مناسباً لي فرجلي صغيرة لكنها ممتلئة جداً.. حتى أنني أصبحت أطلب أحذيتي من محل معيّن يقوم بتفصيل الأحذية في دولة مجاورة.. وأفكر.. إنه حذاء السندريلاااا الدبة!! ومع تخرجي من الثانوية.. وعدم قبولي في أي كلية.. ومع الفراغ.. كان الدافع لدي معدوماً.. لكن ذات يوم.. سمعت أمي تتحدث في الهاتف لخالتي دون أن تعلم.. وتقول.. - ومن يخطبها يا هيا.. مسكينة.. أنت لم تأتي منذ عدة أشهر ولم تريها.. لقد ازدادت سمنة.. لم أستطع أن أكمل الحديث وأسرعت لغرفتي أبكي.. أقفلت الباب عليّ.. ورميت نفسي على السرير.. وأخذت أبكي وأبكي.. كم أود لو أستمتع مثل بقية الفتيات.. أن ألبس وأتزين.. وأن أخطب في المناسبات.. يا الله ساعدني وارحمني.. يا ربي.. ارحم حالي.. وخلصني من هذه البدانة يا رب.. وهنا.. قررت أن أعاهد نفسي أن أجعل الجميع ينظر لي بعين أخرى بعد الآن.. لماذا أجعل الآخرين ينظرون لي دائماً بعين الشفقة أو الاحتقار لماذا؟ إن الحل بيدي وليس بيد شخص آخر.. والله سبحانه وتعالى سيعينني إن توكلت عليه.. وتوكلت على الله ووضعت لي نظاماً معقولاً صممته بنفسي من خلال كتب التغذية التي أصبحت أقرأها كثيراً.. كما قررت أن أمارس الرياضة لمدة نصف ساعة يومياً.. أجري في فناء المنزل أو أتمرن على الجهاز الرياضي الذي في غرفتي.. وأشرب الكثير من السوائل.. وعاهدت نفسي أيضاً أن أصوم كل يومي اثنين وخميس وأفطر إفطاراً معقولاً.. فالصيام يعود الجسم على التحمل وقلة الطعام كما ينظف الدم من الشوائب والسموم.. وابتعدت عن الحلويات وقللت من أكل المطاعم.. وأصبحت أكثر من الفواكه والخضار والأطعمة المسلوقة والمشوية.. وفيما عدا ذلك لم أحرم نفسي كثيراً.. والحق يقال أن وزني لم ينزل بسرعة في البداية.. كنت أنزل ببطء شديد لكن جسمي كان يبدو مشدوداً أكثر بكثير من المرة السابقة.. وصغرت مقاسات ملابسي كثيراً.. وأصبحت أشعر بحيوية ونشاط وإقبال على الحياة.. لقد تغيرت حياتي تماماً.. وما أن حل الصيف التالي إلا وقد أصبح وزني خمسة وستون كيلو غراماً فقط... لقد نزلت خمسة وخمسين كيلو غراماً خلال عشرة أشهر.. إنها المعجزة التي حصلت بفضل الله سبحانه وتعالى.. ثم بإرادتي وعزيمتي.. تغير شكلي تماماً وأصبحت أبدو أصغر من عمري بعدة سنوات.. حتى وجهي أصبح أكثر تورداً مع عنايتي بالتغذية الصحيحة.. أصبحت أحب الاختلاط بالآخرين وأحب أن أزور أقاربي ولم أعد أشعر بالحرج من نظرات الآخرين.. وما أن حل زواج ابنة خالي منى حتى كنت أول الحاضرات.. وهذه المرة كنت أمشي بكل ثقة بين الحاضرات وأنا أسمعهن يتهامسن.. من هذه؟ من تكون؟ معقول دانة؟ هذه دانة بنت منيرة؟ لا يمكن! كيف؟ ما شاء الله.. كيف تغير شكلها هكذا؟ كنت أحمد الله سبحانه وتعالى أن استجاب لدعائي.. وشعرت وأنا أسير.. أني قد رميت شخصيتي الأولى.. تلك الفتاة البدينة المنكسرة المعدومة الثقة في نفسها.. موضع نظرات السخرية والشفقة.. إنني الآن.. فتاة أخرى.. فقد دفنت دانة.. (الدبة)!
** مجلة حياة العدد (45) محرم 1425هـ
- 14 -
بيتي ليس هنا
يا الله يا عيال.. يالله.. سنذهب للبيت الجديد.. هكذا كان أبي ينادينا فنتقافز فرحاً ونسرع لنحضر عباءاتنا ونتسابق نحو السيارة.. بينما أمي تصرخ.. - دلييييييييييّل.. عندك اختبار.. وين تروحين؟ فأعود أدراجي وعباءتي تطير خلفي لأمسك بكتابي وأحضره معي حتى تكف أمي عن تأنيبها، فأشير إليها به (سأدرس هناك!).
ولا يخلو زحامنا في السيارة طبعاً من المعارك والصراخ.. لكن أكثر ما كان يغيظني هو حين تقوم شوق الصغيرة بسحب (غطوتي) لتثير غضبي.. فقد كنت لا أزال في الصف الأول المتوسط وكنت فرحة جداً بارتداء غطاء الوجه لأعلن أني أصبحت كبيرة ومثل بقية النساء..
- يبه.. شوف شويق الـ (..) ذبحتني تسحب (غطوتي)!
- الله يصلحكم.. هل تسكتون أم نعود للبيت؟!
- لاااااااااااااااا.. خلاص... نسكت.. نسكت..
كانت رحلتنا الأسبوعية للبيت الجديد الذي نبنيه هي أشبه برحلة خيالية نطل منها على عالم أحلامنا الجميل.. كنا ننتظرها على أحر من الجمر لننطلق في جوانب البيت وروائح رطوبة الاسمنت تعبق أنوفنا.. نصعد الدرج أو ننزل ونتراكض نحو غرفنا المستقبلية لنتناقش ونتجادل..
- هنيّد.. اسمعي.. شوق سوف تكون معك في غرفتك..
- يا سلام؟!.. لا.. شوق معك أنت..
- لا.. أنت الكبيرة.. يجب أن تكون شوق معك حتى تعتنين بها..
- بالعكس أنا الكبيرة يجب أن تكون لي غرفة لوحدي..
- يعني تريدين أن تكون شوق مع كل ألعابها وملابسها و(حوستها) في غرفتي.. حرام عليك.. غرفتي صغيرة.. انظري غرفتك أكبر..
- ليس من شأني..!
- حسناً سوف أقول لأبي..
وأذهب لأبي لأجده يتفقد نوافذ بعض الغرف ويتأكد من جودة البناء..
- يببببببببببه.. اسمع..
- بسم الله! ماذا هناك؟
- اسمع.. هنيّد تقول أن شوق يجب أن تكون معي في غرفتي.. وأنا لا أريد.. حرام غرفتي صغيرة أريدها لي وحدي.. هند غرفتها أكبر.. ممم.. ثم.. هند هي الكبيرة.. هي التي تعرف كيف تتعامل مع شوق أما أنا فبالتأكيد سأتضارب مع شويّق طوال الوقت.. أرجوك يا أبي..
- إممم..
ويلتفت أبي نحو النافذة ليتحسسها ثم يقول.. - لم يثبتوا الإطار جيداً..!
- يببببببببه!
- اصبري..
ويخرج خارج البيت ليحادث الحارس.. ويتركني أغلي من شدة الغضب على هند..
* * * *
كنا نسكن في بيت قديم جداً في حارة قديمة.. وكان ذلك أمراً يضايقنا بشدة.. نفسياً واجتماعياً.. فقد كان البيت قديماً لدرجة وجود العديد من التصدعات فيه.. كما أن المياه كانت تتسرب من الحمامات – أعزكم الله.. وكانت الصبغة - رغم كل محاولات التجديد – تتقشر بشكل قبيح على الجدران..
وكنا نشعر بالحرج من دعوة أي شخص لبيتنا.. حيث كل شيء يوحي بالقدم.. كما كان الحي سيئاً وشعبياً حيث الشوارع المليئة بالمياه المنتنة وبراميل القمامة الملقاة على الأرض.. والجيران سيئوا الأخلاق لا يراعون حقاً للجيرة.. فطالما نالنا من شرهم وأذاهم الشيء الكثير..
كنا نبكي أحياناً حين نشعر بالحرج من بيتنا.. خاصة حين نشعر بالحاجة لدعوة صديقاتنا أو لعمل حفلة بسيطة لكننا لا نستطيع لأن بيْتنا لم يكن ملائماً..
لذا كان البيت الجديد بالنسبة لنا الحلم المنقذ.. وقصر المستقبل الذي ننتظره.. وكنا نعد الأيام لنخرج من بيتنا المهترئ للبيت الجديد الذي يبنيه والدي.. وكنا نتحادث كثيراً حوله في ليالي الانتظار الطويلة حين نخلد لأسرتنا.. فتقول هند..
- حين نسكن بيتنا الجديد إن شاء الله سأدعو كل صديقاتي..
- نعم.. وسأجعل صديقتي مروة تصعد لغرفتي لتراها.. أريد أن تكون غرفتي شقة متكاملة.. سأضع فيها أريكة للضيوف.. وثلاجة أضع فيها كل ما أحب من حلويات.. ممم.. وسأضع مسجلاً لأسمع أشرطة أناشيدي المفضلة دون أن أزعج أحداً معي في الغرفة.. يا سلاااااااام..
- ومن أين لك المال اللازم يا حلوة؟
- إنني أوفر منذ عامين.. لدي الآن.. ثمانمائة ريال.. وخلال سنة إن شاء الله سيصبح لدي ألف ومئتين أو ألف وخمسمائة حسب غزارة العيديات هذه السنة..
* * * *
كان من المفترض بإذن الله أن ينتهي بيتنا خلال سنة.. لكن فجأة.. ألمت بوالدي أزمة كبيرة.. فقد كان قد أعطى مبلغاً كبيراً للمقاول.. وإذا بالمقاول يهرب بالمال.. دون أن يعطي العمال ولا أصحاب المواد حقهم.. كان من المفروض أن يكفي هذا المال حتى إكمال البيت.. لكن هروب المقاول واختفاءه سبّب أزمة هائلة فأصبح الجميع يطالب أبي بالمال.. حيث أن المقاول قد خدع أبي بطريقة ما وجعله المسؤول عن دفع الحق للجميع.. وقد وصل الأمر لدرجة استدعاء أبي من قبل الشرطة عدة مرات..
بدا أبي متماسكاً في البداية.. أو حاول أن يكون كذلك رغم قوة الصدمة.. لكنا فوجئنا ذات يوم بصراخ ماجد الذي كان لا يزال في السادسة من عمره وهو يدخل علينا في المطبخ..
- يمممممممممه.. الحقي.. أبوي مات!
لا أزال أذكر هذه العبارة ترن في أذني.. أذكرها جيداً..
أسرعنا نجري نحو الفناء وأمي غير مصدقة.. فوجدنا أبي قد وقع أرضاً قرب الباب وهو يمسك قلبه.. اتصلنا على خالي الذي أتى مسرعاً ونقل أبي للمستشفى.. وعلمنا أنه أصيب بجلطة..
كان أبي المسكين يكابد الألم والمرارة بسببنا.. فالحل الوحيد أمامه للخروج من هذه الأزمة كان هو بيع البيت.. لكنه لم يرغب أن يحطم أحلامنا التي كنا نعيش ونتنفس عليها.. لم يشأ أن يضيع في لحظة كل ما تمنيناه في حياتنا.
لم يعلم أبي أنه كان أهم بالنسبة لنا من كل هذه الأحلام، وأن كل شيء يهون ويصغر أمام صورة أبي الحبيب..
وبعد أن تحسنت حالة أبي.. أقنعناه ببيع البيت برضانا.. وبالفعل.. باع أبي البيت.. ليسدد ديونه..
في تلك الليلة التي أخبرتنا بها أمي أن أبي باع البيت فعلاً.. صليت صلاة الوتر.. ثم أطفأت الأنوار وألقيت نفسي في سريري.. وأخفيت رأسي تحت الوسادة وأخذت أبكي.. وأبكي بكل حرقة.. لقد فقدت أجمل أحلامي.. فقدت البيت الذي كنت أرسم صورته منذ أعوام في ذهني.. فقدت الغرفة الوردية الجميلة التي كنت أعيد ترتيبها كل ليلة في مخيلتي.. فقدته للأبد.. لم يعد هناك بيت جديد جميل.. سنبقى هنا بقية عمرنا، سنبقى في هذه الغرفة الضيقة التي تتسرب المياه من سقفها، حيث ثلاثة أسرة ومكتبة قديمة ودولاب تساقطت أبوابه..
بكيت وبكيت كثيراً حتى ابتلت وسادتي ونمت..
وفي المنام.. رأيت رؤيا لم أرى مثلها في حياتي.. لا تزال بكل صورها وأصواتها عالقة في ذهني وكأني أراها الآن.. رأيت كأني واقفة في مروج عظيمة خضراء تمتد إلى الأفق.. وبينما أنا أنظر إلى تلك المروج.. شعرت بمن يناديني باسمي.. دلال.. وإذا بشخص لم أره.. أحسست فقط بشبح أبيض أمسك يدي.. وقال لي تعالي أريك.. وإذا بي أرى بيتاً صغيراً جميلاً على جسر بين جبلين.. كان بيتاً صغيراً لكنه يقع بشكل غريب على جسر متحرك يهتز بين جبلين وكنت أشعر في كل لحظة أن ذلك البيت سيقع وينزلق من على الجسر نحو الهاوية وكأنه موضوع هنا بشكل مؤقت.. شيء غريب.. قال لي.. هل تريدين هذا؟ فسكت لأني كنت محتارة.. البيت جميل لكن مكانه خطر سينزلق ويذهب في أي لحظة.. فقال هو.. كلا.. تعالي أريك.. فإذا بي كأني أطير لأعلى وأرى من بعيد في أقصى المروج قصراً رائع الجمال.. لا أستطيع أن أصف ولا حتى جزءاً من جماله.. به حدائق خضراء ومسابح وزهور.. ولا أعرف كيف أصبحت أنظر إلى داخله من بعيد فإذا بي أرى الصالات الرائعة والأرضيات اللامعة والنوافذ الكبيرة والشرفات التي تطل على الحدائق الخضراء والغرف الجميلة.. بهرت وأنا غير مصدقة.. وسمعت الصوت يقول لي.. هذا بيتك.. لكن ليس الآن..
واستيقظت على صوت أمي توقظني لصلاة الفجر..
كنت أتنفس بشدة وكأني كنت أطير فعلاً قبل قليل..
- دلال؟! ما بك؟..
- يمه.. يمه..!
من شدة فرحتي بذلك الحلم الجميل كنت أتنفس بصوت عال.. حتى خافت علي أمي.. لم أعرف ماذا أقول.. وبلا وعي مني رميت نفسي على أمي أحضنها.. كنت أبكي بانفعال حتى كادت أمي أن تبكي معي وأخذت تذكر اسم الله علي وتعيذني بالله من الشيطان..
- اسم الله عليك.. ماذا هناك.. بم حلمت؟
سكت لفترة وأنا أفكر ماذا أقول.. وفي لحظات بسيطة.. قررت أن يكون هذا الأمر سراً خاصاً بي.. - لا شيء.. حلم مخيف فقط.. الحمد لله لا شيء..
ومنذ تلك اللحظة.. لم أبك على بيتنا الذي فقدناه.. أصبحت أنظر لكل هذه الدنيا كذلك البيت المتزحلق فوق الجسر.. إنها مجرد دنيا فانية ستزول في أي لحظة.. إننا لا نعرف متى نموت ونغادر هذه الدنيا تاركين كل متعها.. لكن النعيم الحقيقي والمنزل الحقيقي الذي علينا أن نبنيه ونخطط له هو هناك.. في الدار الآخرة.. حيث النعيم الأبدي..
ومنذ تلك الليلة أصبحت أسترجع شكل ذلك القصر الباهر الذي رأيته فأنسى كل أحلامي وآلامي في هذه الدنيا، وأسأل الله بيتاً في الجنة.
**
مجلة حياة العدد (46) صفر 1425هـ
- 15 -
البحث عن الكنز..
منذ أن فتحت عيني في هذه الدنيا وبدأت أطلب أبسط طلباتي في هذه الحياة بكل براءة الطفولة.. وأنا أسمع عبارة (لا نستطيع).. (لا نقدر).. كان المال هو العائق الكبير الذي يعيق تدفق السعادة في بيتنا..
وقد كان لنفسية أمي دور كبير في إحساسنا الدائم بالنقص.. فقد كانت تلوم أبي وتتذمر من الحياة معه وتسميها حياة الفقر والنكد.. وهي تشعرنا دائماً بأننا أقل من غيرنا وأن حياتنا ناقصة وكئيبة..
فقد كانت أمي الزوجة الثانية الصغيرة مقارنة بأبي المسن.. ولم يكن هناك ما يجبرها على الزواج منه سوى الهروب من ظلم زوجة أبيها وتسلطها.. لذا فهي تشعر دائماً بأنها مظلومة بزواجها من أبي..
كنت أشعر أن وضعنا ليس وضعاً طبيعياً مقارنة بأسر زميلاتي.. فأبي متقاعد مسن.. وأمي امرأة بسيطة جداً بالكاد تجيد القراءة.. بيتنا مليء بالمشاكل.. ونحن محرومون من أبسط احتياجاتنا.. كنت أرمق أحذية زميلاتي وحقائبهن المتجددة فأشعر بالحزن يغمرني وشعور بالإحباط والخيبة يكتنفني لكني أحاول أن أتظاهر بعدم الاهتمام.. كما أحاول بشدة ألا أظهر لزميلاتي أني أعاني من أي حاجة أو حرمان.. فمريولي قديم لأني لا أحب الخروج للسوق لشرء آخر!.. وحذائي المهترئ أرتديه لأني أحبه ولا أرتاح إلا فيه! وحقيبتي الرخيصة أستخدمها لأني لم أجد حقيبة تناسبني في السوق..! وهكذا كنت ألفق الأعذار حتى لا يعتقد أحد أن السبب هو أننا محرومون أو محتاجون..
ذات ليلة بينما كنت مستلقية أنتظر النوم.. سألت أختي الكبرى.. - أمل.. هل تعرفين ماذا أتمنى؟
- ماذا؟
- أتمنى أن يعثر أبي على كنز لم نتخيله في حياتنا.. ونصبح أغنياااااااااء.. نشتري كل ما نريده.. ملابس أحذية حقائب ألعاب.. كل ما نتمناه..
بدت أمل مستلذة بأحلامي.. فصمتت تنتظرني أكمل..
- نعم.. نخرج للسوق وفي محفظة كل واحدة منا خمسمااائة ريال!! و..
ضحكت أمل.. - خمسمائة ريال؟.. فقط؟! (يحليلك)! اجعليها ألف أو ألفين.. أرجوك..
- نعم.. ألف ريال في محفظة كل واحدة.. ونشتري كللللللل ما نريد.. وأشتري لأخوتي الصغار ألعاب وحلوى..
- لحظة! أليس مع كل واحد ألف ريال دعيهم يشترون بها!
- لا تقاطعيني.. حسناً.. كل واحد معه نقوده ويشتري ما يريد... وأشتري لي ملابس جميلة.. وأحذية وحقيبة من محل معروف.. وإكسسوارات.. وعطر.. ثم نذهب لمطعم ونتعشى معاً.. ثم.. نركب في سيارة والدي الجديدة ونمر على محل أيسكريم فاخر.. و.. أنا أريد آيسكريم بالفراولة مزين بالمكسرات.. وأنت؟..
فجأة أحسست أن أمل صامتة تماماً.. - أمل.. ما بك؟
جاءني صوتها حالماً.. - لا شيء.. لا شيء.. أكملي.. حلم راااائع..
فجأة.. اخترق أسماعنا صوت أمي وهي تصرخ على أبي في الصالة.. وتقول.. - يا ربي! ماذا أفعل؟.. لقد تعبت.. حياتي معك كلها فقر في فقر.. ما الذي دهاني لأتزوجك.. ليتني أموت وأرتاح من هذه الحياة! وتعالى خلفها صوت بكاء أخي الصغير..
سحبت غطائي الصوفي ليغطي رأسي حتى لا أسمع المزيد.. فقد سأمت.. سأمت حتى المرض من سماع هذه العبارات اليومية من فم أمي.. أشعر فعلاً بأني أكاد أنهار بسبب ذلك.. كلامها وصراخها اليومي مثل السم اللاذع الذي يقتل أصغر فرحة في قلوبنا ويقطع علينا حتى لذة الأحلام..
استمر صراخها فترة قبل أن تذهب لغرفتها ليهدأ المكان..
سحبت غطائي شيئاً فشيئاً حتى تأكدت من انتهاء الإعصار.. وبدأت أحاول أن ألم شتاتي.. وأفكر في شيء جيد.. - أمل.. ماذا عنك.. ما هو حلمك؟
سكتت أمل قليلاً.. حتى توقعت أنها لن تتكلم.. لكنها بعد فترة نطقت بهدوء.. بصوت أشبه بالهمس.. - أنا أمنيتي أتزوج وأطلع من هذا البيت.. وبعد قليل قالت.. - لا أريد أن يجد أبي كنزاً ونصبح أغنياء.. فهذا لن يحل شيئاً.. أريد أن أتزوج.. حتى لو كان رجلاً فقيراً مثل أبي.. أريد أن أبدأ معه حياة مختلفة عن حياة والديّ.. أريد أن أشعره أني دائماً معه.. أحبه وأسانده.. لا أريد أن أكون مثل أمي..
شعرت بهزة كبيرة في أعماقي.. لم أتوقع أن تفكر أمل هكذا.. إنها تحلم بالحب والأمان وليس المال.. وشعرت أن ما تحس به هو شيء نبيل.. نبيل جداً.. حتى أني تأثرت بها.. وأصبحت أفكر مثلها..
مرت ست سنوات على تلك الليلة الدافئة وتلك الأحلام الصغيرة.. تخرجت.. وأصبحت أخصائية اجتماعية.. وأصبح لي ولأختي أمل راتب..
تحسنت حالتنا المادية كثيراً.. أصبح في يدي بدل الألف التي كنت أحلم بها.. خمسة أو ستة آلاف ريال.. لكن السعادة لا تزال بعيدة عن بيتنا.. لا تزال ترفرف عالياً.. وهي تشير لنا من بعيد ساخرة..
حياتنا لم يغير فيها المال شيئاً.. لا تزال كما هي.. أمي يزداد تذمرها وشكواها كل يوم.. وأبي المسكين هدت جسده الأمراض والهموم.. وبدأت أعراض الهذيان تظهر عليه..
لم أسمع أمي يوماً تقول عن أبي شيئاً طيباً.. لم تمدحه مرة واحدة في حياتها.. فقد كانت دائماً تتذمر من فقره.. ومن فرق السن بينها وبينه.. والآن تتذمر من مسؤوليتها تجاهه بعد أن كبر كثيراً..
وبقيت أنا أحاول أن أزرع المشاعر الجميلة في نفسي وأحافظ عليها حتى لا تموت رغم كل الآلام حولي.. وأدعو الله أن لا يحرمني جنة الفردوس..
ذات ليلة.. دخلت أمل ساحبة مخدتها وغطائها لغرفتي.. - جوزاء؟.. أرغب أن أنام في غرفتك اليوم.. أتسمحين؟
- بالتأكيد.. تفضلي..
وبعد أن خلدت كل منا لفراشها.. قالت أمل.. - جوزاء؟
- نعم..
- بماذا تحلمين الآن؟
- أنا.. وبقيت للحظات أفكر فيما أقول.. هل أحلم بالمال؟.. كلا لقد وجدته.. ملابس وأحذية؟.. حقائب.. مطعم.. وآيسكريم بالفراولة؟! كلها وجدتها.. ماذا بقي إذن؟.. أمي.. وأبي.. لا فائدة.. لقد فات الأوان ليتغيرا.. - لا شيء..
- لا شيء؟!
- تقريباً.. وأنتِ؟
صمتت أمل تماماً كما صمتت قبل سبع سنوات.. حين كنا لا نزال في الثانوية العامة.. نداعب أحلاماً لم تخرج من ثوب الطفولة بعد..
- لا زلت أحلم نفس حلمي القديم.. زوج فقير.. أريده فقيراً.. لأثبت أني أستطيع أن أبني حياة سعيدة مهما كان المال غائباً.. أريد أن أبني أسرة تشع منها السعادة والحب والراحة مهما كان الفقر مسيطراً.. لا أريد لأبنائي أن يعيشوا حرمان الحب والسعادة كما عشناه..
سبحان الله.. لم يتغير حلمها.. شعرت بأني أود لو أقوم وأضمها إلى صدري.. تعاطفت معها.. وشعرت أنها تريد أن تنتصر على الشعور بالنقص والحزن الذي زرعته أمي في حياتنا..
وذات صباح شتوي غطت الغيوم سماءه.. اتجهت لمكتبي وأنا أشعر بهدوء يسري في نفسي رغم تأخري.. لا إله إلا الله.. أصبحنا وأصبح الملك لله.. وحين بدأت أخلع عباءتي وأنظم وضع ملفاتي.. دخلت عليّ إحدى المدرسات.. - أستاذة جوزاء.. هناك طالبة أرغب أن تتحدثي معها.. لا أعرف ما بها.. إنها دائماً سارحة.. وهي منعزلة عن الطالبات.. ليتك تعرفين ما بها.. فمستواها الدراسي ضعيف جداً..
- حسناً أعطيني اسمها ودعيني أرى ملفها ثم أرسليها لي بعد نصف ساعة..
- جزاك الله خيراً..
سحبت ملف الطالبة لأراه.. وكان أول ما انتبهت إليه.. عمل الوالد.. فوجدته عملاً بسيطاً.. عدد الأخوة أحد عشر.. فهمت..
وحين وصلت الطالبة.. جلست معها وبعد حديث قصير.. فهمت كل شيء.. نفس معاناتي في صغري.. الفقر.. فهي تشعر بأنها تحرج من زميلاتها لذا لا تحب أن تجلس معهن..
شعرت بحماس شديد لأن أنتشلها مما غرقت فيه.. وقلت لها.. - حبيبتي.. أنت لا تزالين في بداية حياتك.. لا تجعلي هذا الشعور يسيطر عليك.. فلو تركت له العنان لحطم حياتك كلها.. الفقر ليس عيباً.. وهو ليس سبباً للحزن أو التعاسة.. فالسعادة والحزن هي نتاجك أنت.. نعم.. أنت من يستطيع أن يقرر ما إذا كنت تريدين أن تكوني سعيدة أو حزينة.. وليس الفقر أو المال..
سكتت الفتاة ثم قالت.. - ولكن الفقر يحرمنا من أشياء كثيرة.. يحرجنا أمام الآخرين..
- والسعادة ليست في الأشياء.. ولا لدى الآخرين.. السعادة في روحك.. في قلبك.. لو آمنت فعلاً أن هذه الدار ما هي إلا دار مؤقتة للعمل والاختبار فقط.. بينما الدار الآخرة هي التي تحوي السعادة الحقيقية.. لو آمنت بذلك وأيقنت به لما شعرت بالحزن بسبب الفقر أو غيره.. صدقيني يا حبيبة.. والله.. أن السعادة هي التي تنبع من داخلك.. فكم من شخص فقير محبوب يشعر بالراحة وينشر الحب والفرحة في من حوله.. وكم من شخص غني مترف منبوذ مثقل بالمشاكل والهموم ينشر التعاسة أينما حل..
- كلامك جميل وأنا مقتنعة به ولكن..
- ولكن ماذا..؟
واصلت كلامي بهدوء.. - سأقول لك شيئاً ربما من المفترض ألا أقوله.. اسمعيني.. لقد عشت مثلك.. عشت حياة محرومة مثلك.. وكنت أعتقد أن ألمنا هو بسبب المال فقط.. لذا كنت أتمناه.. لكن الآن.. حضر المال.. ولم تحضر معه السعادة لبيتنا.. هل تعرفين لماذا.. لأن هناك من يزرع السوداوية والشكوى حول كل شيء.. هناك من لا يقتنع بأي شيء ويطلب المزيد دوماً دون أن يستمتع بما لديه من أشياء بسيطة.. إذا بقيت تربطين سعادتك وفرحتك بالمال فقط فستتعبين.. لأنه كالسراب.. السعادة هي الرضا بما حولك.. والتفاؤل.. السعادة الحقيقية هي أداء حقوقك لربك وعباده.. وشعورك بالحب لخالقك ولكل من حولك.. لا تنتظري شيئاً لتصبحي سعيدة.. فلا أحد سيجلب لك السعادة على طبق من ذهب.. ابدئي الآن وابحثي عن كنز السعادة في داخلك.. في روحك.. توكلي على الله وسيكون معك..
دعت عيناي وأنا أحاول بكل حماس أن أنقذها من الألم الذي جعلتنا نعيش فيه أمي هداها الله طوال حياتنا، وأن أبث فيها الحماس للعيش بسعادة والنجاح في كل جوانب حياتها مهما كانت الظروف حولها..
وحين خرجت مبتسمة من غرفتي.. شعرت أن انتصرت على شيء ما.. انتصرت على شيء أكرهه.. وسرى في نفسي شعور بالراحة.. وتمتمت.. الحمد لله.. الحمد لله..