لا أعرف لماذا كان وجهي يحمر خجلاً وأرد بحياء وبصوت أقرب للهمس.. نعم..
يا حلييييييييييلكم..
كنت أشعر أن نظرات زميلاتي وصديقاتي حين يعرفن عددنا تتجاوز الاستغراب نحو شيء من الاستطراف أو الاستهزاء.. رغم أني أحاول أن أقنعهم أن وضعنا عادي ولا غرابة فيه..
وكان السؤال الجارح الآخر.. - غريبة ما يتزوج أبوك على أمك..؟!
وأحاول أن أقنعهم مرة أخرى أن أبي يحبنا كثيراً وقد نسي الآن موضوع الولد.. ولم يعد يرغب بإنجاب المزيد.. لكن نظراتهم وأسئلتهم السخيفة أو تلميحاتهم نادراً ما تتوقف..
* * *
حين نستعد للذهاب لزواج أو لمناسبة اجتماعية كبيرة فإني أشعر بحرج كبير من الذهاب مع أخواتي.. فمنظرنا يثير نظرات الآخرين كثيراً.. كما يثير شفقتهم واستعطافهم المزعوم علينا..
أجلس على الطاولة محفوفة بأخواتي من مختلف الأعمار.. تمر ابنة عمي مها.. تسلم مع ابتسامة استهزاء.. ما شاء الله كالعادة!.. لوحدكم تملؤون طاولة كاملة..!
نضطر لمراقبة سلوكنا وتصرفاتنا كثيراً.. يجب ألا نسير معاً ولا نقف معاً وحين تذهب أمي لمكان ما علينا ألا نتبعها جميعاً فنبدو كقطار طريف.. بل نقوم على فترات زمنية متباعدة..
كنت أشعر بأخواتي كقيد يخنقني ويضطرني لأن أشعر بشيء من الدونية والحرج أمام الآخرين.. إنهن بريئات لا ذنب لهن.. لكني بت أشعر بشيء من المقت لهن لما يضعنه على كاهلي من ثقل وشعور بالخجل..
أقنعت أمي أن نضع لنا دوراً للذهاب لبعض الزيارات العائلية حتى لا نثقل كاهل من نزورهم أو نشعرهم بكثرتنا.. وجعلني هذا الأمر أقل حرجاً أمام الآخرين.. لكنه لم ينه مشكلتي التي تزداد كلما كبرت وأصبحت أكثر حساسية من نظرات الآخرين وتلميحاتهم..
بطريقة ما استطاعت نظرة مجتمعي الذي يحيطني أن تجعلني أشعر بالاكتئاب وعدم الرغبة في الخروج.. كنت أنظر لصديقاتي وطريقة حديثهن عن حياتهن فأشعر بالغبطة.. كل واحدة تتحدث عن أمها وكأنها وحيدتها.. خرجت مع أمي.. قلت لأمي.. نفكر أنا وأمي في موديل فستاني.. وهكذا.. وإن حصل كانت هناك أخت أو أختان أو بالكثير ثلاثة.. وهما أكبر بكثير أو أصغر بكثير.. لكن بالنسبة لي فالأمر مختلف.. أنا محاطة بستة أخوات يشاركنني كل شيء.. بدءاً من رعاية والديّ.. فأنا لم أحصل يوماً على انتباه أو اهتمام والديّ لذاتي.. دائماً أسمع الخطاب الجماعي.. أنتن.. سنأخذكن.. سنذهب بكن.. فنحن بالفعل قبيلة أو جيش نسائي كما يطيب لمها ابنة عمي أن ترمي بتلميحاتها السخيفة..
إذا أردت شراء شيء لي.. فيجب أن يتم شراء مثله للجميع.. وإذا أردت الذهاب لمطعم راقٍ مع والديّ فعلينا أن نذهب جميعاً بدءاً بي وانتهاء بجود ذات الأربعة أعوام.. وهنا يصبح المكوث في المطعم مستحيلاً في ظل القرقعة والإزعاج والبكاء والمشاجرات اللافتة للنظر..
أما حين ذهبنا للعمرة العام الماضي فقد كان منظرنا لافتاً بصدق ونحن نسير خلف والدي كالطابور..
كنت أتمنى لو يصبح لي أخ مثل غيري.. أخ أرسله للبقالة.. أو أجعله يخرج ليستلم طلبية التوصيل من المطعم.. يحدثني عن مدرسته ومشاغباته.. بل إنني أتمنى أحياناً أن يكون لي أخ ليراقب تصرفاتي وعباءتي فأضحك في سري عليه وأنا أطيعه بلذة عجيبة.. لكن هذا الأخ عبثاً لم يأتِ.. وبقي حبيس الأحلام كأشياء أخرى كثيرة..
كنت وثلاث من أخواتي قد وصلنا لسن الزواج.. لكن نصيبنا لم يأت بعد لأسباب لا يعلمها إلا الله.. لم يتقدم إلينا خاطب بصفات معقولة – ولا أقول ممتازة.. كانت أمي تنتظر اليوم الذي تزوجنا فيه وتشعرنا بالسعادة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن بيد أمي ولا أبي.. فهو بيد الله سبحانه وتعالى. معظم القلة الذين تقدموا لي كانوا إما كباراً في السن أو لهم سوابق أخلاقية أو أنهم لا يصلون.. أو ليس لديهم عمل ثابت كعبد الله ابن عمي فكيف أغامر بحياتي معه؟ لكن زوجة عمي لم تتركنا في حالنا بعد أن رفضنا بأدب شديد ولدها الذي لم يكن عيبه الوحيد أنه لا يعمل.. ولا أنه لم يكمل دراسته، بل هو يدخن ومحاط برفقة السوء هداه الله.. فكيف تريدني هداها الله أن أوافق على ابنها هذا؟ لقد اتفقنا أنا وأمي وأبي على أنه لا يصلح للزواج.. وبقائي مكرمة في بيت أهلي أفضل من أغامر لأعود مطلقة أو أحمل في أحضاني طفلاً بريئاً لا ذنب له.. لكن زوجة عمي لم تقتنع بكل كلامنا وبدأت حرباً شعواء علينا.. أفرغت خلالها كل ما في جعبتها من عبارات حادة وجارحة بحقنا.. قالت إن أمي عليها أن تبدأ في تسويق هؤلاء البنات قبل أن يتجمعن على قلبها – كما تقول.. فهناك نصف دستة من البنات ينتظرن دورهن خلفي!!.. وقالت أن من لديه مثل هذا العدد من البنات عليه ألا يتشدد في شروط الزواج بل يعطيهن لأول طارق! جرحتني هذه الكلمات أكثر مما فعلت مع أبي أو أمي.. ربما لأن لديهم شيئاً من الجلد وقوة التحمل.. أما أنا فلم تساعدني حساسيتي المفرطة على تحمل هذا الكلام.. وأخذت أبكي ليالٍ طويلة..
وكانت هذه الهجمة سبباً في أن أفكر في وضعي – أو وضعنا- جيداً.. وأعيد حساباتي جيداً.. لماذا علينا أن نتحمل كل هذه الإهانات ورأسنا منكس؟
نظرت لنفسي فإذا أنا فتاة خلوقة ولله الحمد.. مستقيمة بإذن الله.. متفوقة في دراستي.. محبوبة ممن حولي.. وكذلك أخواتي فهن جميعهن صالحات مؤدبات خلوقات.. يثرن إعجاب الجميع بنشاطهن وتفوقهن.. أي فخر هذا لأبي وأمي؟ لماذا نترك للآخرين الفرصة ليشعرونا بالنقص.. ونحن ربما أفضل منهم بكثير..
فكرت في بيت عمي.. ماذا لديهم ليشعرونا بالدونية؟ ثلاثة أبناء فاشلين في دراستهم عابثين متخرجين من مقاهي الشيشة.. وثلاث بنات مرفهات متعجرفات.. لا يعرفن لاحترام الآخرين قيمة.. جل وقتهن يشغلنه بأحاديث هاتفية مشبوهة.. وتبادل أشرطة الأغاني مع صديقاتهن.. سبحان الله.. زوجة عمي نفسها.. لم تحظ يوماً ببر أحد من أبنائها أو بناتها أو اهتمامهم وكثيراً ما اشتكت من سوء أدبهم وتعاملهم معها.. فلماذا تحاول أن تظهرنا نحن بمظهر الأضعف والأقل.. ألأن الله شاء ألا يكون بيننا أخ ذكر؟ فقط لهذا؟ يا للتفكير السطحي السخيف؟
وكأن الله شاء أن تكون هذه المصيبة فرصة لأن أشكر الله على نعمته علينا وأن نكسر قيد الضعف الذي كان يحني رقابنا..
شعرت بعد جدال طويل مع نفسي أني أولد من جديد وأزيل عن نفسي بقايا عالقة من تفكيري السابق وأتخلص من تلك الخيوط اللزجة التي كانت تحيطني وتقيدني عن الكثير وتمنعني من أن أرفع رأسي أمام الآخرين..
لم أكن أصدق إن إنساناً يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها لكني تغيرت هكذا.. لم أعد أشعر بذلك النقص من نظرات الناس لأخواتي.. بل انقلب هذا الشعور إلى فخر حين أنظر لأخواتي بمظهرهن الجميل وحديثهن المثقف المهذب الرقيق.. وتذكرت أنه لم يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان كل نسله من البنات ولم يعش له ولد.. ويكفينا فخراً أننا نستر والديَّ عن النار لأنهما أحسنا تربيتنا بإذن الله..
استغربت أخواتي من التغير الذي طرأ علي فقد بدت الثقة في طريقة حديثي وتصرفاتي، وأنا التي كنت أزرع في نفوسهن الشعور بالنقص والدونية وأردد أمامهن دائماً أني أخجل من ظهورنا معاً وغير ذلك..
ربما ظهر هذا الشعور في داخلي كحاجة فطرية ماسة لمقاومة كل ذلك الهجوم من زوجة عمي وابنتها وغيرهن ممن يحاولن إهانتنا لإرضاء نفوسهن المريضة. لكنه كان شعوراً عارماً وقوياً وسرى في نفسي مثل نهر نبع فجأة في أعماق الصحراء.
أصبحت أشجع أخواتي على الظهور معاً ولا أجد في ذلك أدنى غضاضة، وأحاول أن أزرع فيهن الثقة بأنفسهن والحب والافتخار ببعضهن البعض، بدلاً من التقوقع حول ذاتنا ولوم بعضنا البعض على شيء قدره الله لنا..
وكلما نظرت لأسرتنا وتماسكها ومحبتها لبعضها البعض ورقيها الأخلاقي حمدت الله حمداً كثيراً.. لأن سعادة الإنسان تتبع من رضاه الداخلي وليس من نظرات الناس وأحاديثهم.. حتى لو كنا أكثر من سبع بنات..
** مجلة حياة العدد (55) ذو القعدة 1425هـ
- 24 - ليلة طلاقي
وقفت طويلاً أمام الباب الذي طالما طرقته وفتحته.. لكن هذه المرة مختلفة.. مختلفة جداً.. نظرت إلى الساعة.. إنها الثانية عشرة إلا خمس دقائق ليلاً.. شعرت بالخوف.. والخجل من نفسي.. ماذا سأقول.. لأمي.. أبي.. يا ربي أعني.. حاولت أن أبتلع دموعي المالحة.. وأخذت نفساً طويلاً لأستطيع الحديث.. شعرت بالتردد والخوف الشديد مما أقدم عليه.. بل شعرت بالحزن على والديّ.. أشفقت عليهما وعلى نفسي.. نظرت خلفي لعلي أتراجع وأعود.. فإذا به قد ابتعد بسيارته ينتظرني أن أدخل بأسرع وقت ليغرب عن وجهي.. أمسكت مقبض حقيبتي جيداً.. وطرقت الجرس.. مرة أخرى طرقته ولا مجيب.. لابد أنهم نائمون.. يا ربي.. وبعد عدة دقائق.. فتح أخي الباب.. - ماذا هناك؟ خيراً إن شاء الله؟! لم أعرف ماذا أقول.. هل أتصنع وأذكر أسباباً واهية أم أواجهه بالحقيقة.. - لا شيء.. غداً أخبركم بما حصل.. سكت أخي وهو مستغرب بينما مضيت لغرفتي أسحب حقيبتي.. وشيئاً من فتات نفسي المحطمة.. التفتُّ إليه.. - ششش!.. أرجوك لا توقظ أمي ولا أبي.. ودخلت غرفتي وأنا منهكة تماماً.. منهكة من الألم والخيبة.. نظرت إليها.. لأول مرة أرى غرفتي دافئة وآمنة بهذا الشكل.. كانت مرتبة نظيفة وكأنها تنتظرني لتحضنني.. أحكمت قفل الباب.. ورميت نفسي على سريري لأرتاح.. ولحظتها شعرت أني أدخل دوامة كبيرة.. كنت غير مصدقة لما حصل.. كانت الكلمة تتردد في ذهني كصدى من حلم مخيف وتدور بي بشدة.. (أنت طالق.. طالق..).. حاولت أن أسترجع الأحداث لكنها كانت لا تصدق.. وكأنها مقطع من فيلم كرتوني خيالي.. لا يمكن..! قبل ثلاثة أشهر فقط.. كنت هنا.. الابنة المدللة.. نعم.. طفلة والديها.. لديها ألعاب وكراسة رسم وألوان كثيرة.. لمحت دفاتري الصغيرة على الرف ومذكراتي هنا وهناك.. وهذه الألعاب والتحف اللطيفة.. لا زالت موجودة.. كنت مجرد فتاة صغيرة بريئة.. لا تعرف عن عالم الكبار أشياء كثيرة.. والآن.. ماذا حدث؟ هل يمكن.. أنا مطلقة..؟! هكذا؟! شعرت بألم في صدري.. في قلبي تماماً حين تخيلت الصدمة.. آآآآه.. كم هي مؤلمة.. أحتاج من أبكي بين يديه.. وأبكي وأبكي.. دفنت رأسي في وسادتي وبكيت حتى شعرت أن جسمي كله يرتعش من الألم.. وبعد أن ارتويت من الدموع.. بدأت أفكر بما آلمني أكثر.. كيف أواجه أهلي.. ماذا أقول لهم.. كيف أشرح لهم ما حصل وكيف صبرت عليه وعلى تصرفاته الطائشة منذ أول يوم؟.. كيف سأواجه نظرات الآخرين وفضولهم؟.. زميلاتي في الجامعة.. إنهن يعتقدن أني سعيدة تماماً في حياتي فكيف أخبرهن.. كيف أخبر أعمامي وخالاتي.. كيف أواجههم؟ بل كيف أواجه بنات أعمامي وأخوالي؟ يا ربي ثبتني.. يا رب.. لم أشعر بالحاجة الماسة لمن يحتويني ويمسح على رأسي بحنان كما احتجته ليلتها.. لمن أشكو؟ لمن ألجأ؟ بكيت طويلاً لكني وجدت أن البكاء يزيد ألمي ولا يخففه.. ففي كل نوبة بكاء طويلة كنت أشعر بآلامي تتجدد وجروحي تنزف أكثر.. وتظهر المزيد من المواقف المؤلمة أمام عيني.. لكني لم أكن أستطيع التوقف.. بكيت على حالي والذل الذي عانيته لأحافظ على زواجي.. وعلى حال أهلي الذين يترقبون السعادة في وجهي.. بكيت على طفولتي وحياتي التي تغيرت تماماً.. بكيت على الثمن الذي دفعته من شبابي وعمري.. وبكيت على الخناجر المسمومة التي غرسها النذل في قلبي الطاهر المحب.. وعلى كبريائي الذي أهنته من أجله كثيراً.. وكلما شعرت بالأسف على نفسي أكثر كلما بكيت أكثر.. ولوهلة تمنيت الموت.. نعم.. إنه أفضل حل للتخلص من هذا الموقف المؤلم.. تمنيت لو أموت لحظتها فأرتاح من هذا الهم.. وأريح أهلي.. ولعلي أغرس في قلبه بعض الألم فيشعر أنه السبب في موتي من شدة الحزن والقهر.. ويشعر أهله أيضاً بفداحة تعاملهم القاسي معي.. تحمست لهذه الفكرة.. وقررت أن أتوجه الآن لمصلاي وأدعو الله من كل قلبي أن يأخذ روحي الليلة.. اتجهت لحمامي في هدوء وتوضأت.. وحين عدت لغرفتي لمحت شبحاً في مرآتي.. نظرت إليه.. يا إلهي!! ما هذا.. إنها أنا!! كان وجهي محمراً ومتورماً بشدة من البكاء.. عيناي حمراوان كالدم.. وحاجباي مرتفعان وغير مرتبان.. وأثر صفعته الأخيرة ترك زرقة على عظمة خدي.. شعري منكوش بشعر مخيف.. يا ربي.. أهذا أنا؟! كنت أشبه الشيطان وإن لم أره! استغفرت الله!.. ولم أعرف هل أضحك أم أبكي؟! أمسكت المشط وسرحت شعري وربطته.. وشعرت بالحاجة لوضع شيء من عطر.. فتحت الدرج.. كان هناك زيت زهور اللافندر الذي أحبه.. وضعت شيئاً منه فأشعرني براحة واسترخاء.. يا سلام.. ضحكت في سري.. هذه حصوص التي أعرفها..! نسيت أني كنت متوجهة لسجادتي.. ذهبت إليها.. ارتديت ثوب صلاتي.. وحين وقفت لأصلي أخذت أفكر.. هل أطلب من الله فعلاً أن يأخذ روحي؟! أليس هذا عيباً.. أن أيأس وأقنط من الحياة بهذه السرعة.. وبسبب من؟ بسبب إنسان حقير لا يستحق شعرة من شعر رأسي الجاف؟! سبحان الله.. لقد سمعت يوماً أن الروح ملك الله وليست ملكنا.. وعيب أن ندعو الله لأخذها وكأننا نطلب منه أن يسترد هبته وهديته سبحانه.. لكن طالما أنا هنا وفي مصلاي.. لم لا أطلب منه سبحانه أن يثبتني ويطمئن قلبي ويوفقني لما فيه خيري.. وأن يرزقني زوجاً خيراً من ذلك الزوج.. صليت ركعتين حاولت أن أخشع فيهما.. فشعرت بطمأنينة منعشة تروي قلبي وجوارحي وتغسل آلامي.. ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه قريب من ربه.. أنه معه في كل مكان يسمع شكواه ويجيب دعاءه.. بقيت أناجي الله وأشكو له وأشكو من كل قلبي.. رجوته ودعوته بكل ما أريد.. وأنا هنا.. في غرفتي الصغيرة.. كنت موقنة أنه يسمعني وأنه سيجيب دعواي.. وأنه سينصرني ولو بعد حين لأني مظلومة.. فشعرت براحة.. الراحة المنبثقة من معرفتي بوجود أحد يقف معي ويساندني.. وأي أحد.. إنه الواحد الأحد.. القوي العزيز..
كنت كطفل ضائع وجد أباه في سوق مزدحم بعد أن كاد الظلام يحل وهو لا يكف عن البكاء.. (ولله المثل الأعلى).. كان هذا شعوري.. كنت خائفة وحيدة مرتبكة.. والآن.. كلا.. أنا مرتاحة واثقة بإذن الله.. حين انتهيت.. نظرت حولي.. أشرطتي الدينية.. كتيباتي.. منذ متى لم أطلع عليها؟ .. منذ زواجي.. نعم.. كم أشعر بشوق كبير لها.. أدركت حقاً أن الإنسان كلما ابتعد عن ربه كلما شعر بالضعف والوحدة مهما بدا عكس ذلك.. وكلما اقترب منه سبحانه كلما شعر بالقوة والثقة..
في الصباح كنت متماسكة تقريباً.. رويت لأهلي كل شيء بثبات.. لم أكن خائفة كثيراً.. حاولت ألا تهزني نبرة والدي الحزينة وهو يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله).. ولا دموع أمي وهي تسمع كيف أصف لها الضرب الذي كنت أتعرض له على يده.. تماسكت بقوة حتى لا أبكي ولا تفلت مني بعض الدموع.. وحين انتهيت ضغطت على نفسي لأبتسم وأنا أقنعهم أن هذا قدر الله المكتوب لي والحمد لله أني خرجت من التجربة دون حمل وأنه طلقني من تلقاء نفسه دون أن يتعبنا معه في المحاكم.. فالحمد لله..
كانت التجربة قاسية جداً لي.. لكني اعتبرتها أقوى اختبار مر علي في حياتي.. وأرجو من الله أن أكون قد نجحت في اجتيازه.. فقد استطعت مواجهة زميلاتي وصديقاتي بوجه باسم راضٍ وأنا أحمد الله.. كما تحملت تصرفات أولئك اللاتي أثبتن رداءة معادنهن حين تركن صحبتي.. واستطعت مواجهة قريباتي وصد أسئلتهن الفضولية بكل صرامة وأدب في نفس الوقت.. أصبحت أهتم بمظهري وصحتي، وحتى ثقتي بنفسي لا أعرف كيف ازدادت بفضل الله.. واستمريت أحصد النجاح في حياتي ودراستي ولله الحمد.. والآن ها أنا ذا معيدة في كليتي.. وأحضر للدراسات العليا.. محبوبة من كل من حولي ولله الحمد.. والأهم أني محافظة على علاقتي بربي دائماً بإذن الله.. لأني أعرف يقيناً أنه هو مصدر قوتي وثباتي.. وسر سعادتي..
------------------
نعم .. مطلقة أنا !
قلت لي محدثتي بعد أن رأتني أضحك وأمازحها: (أو تبتسمين في يوم طلاقك؟!) مستنكرة عليَّ ذلك الجرم.. الابتسام.. فإليها وإلى كل من حار هذا السؤال في دواخلها.. أقول:
وتسألني محدثتي.. وفي قسماتها لحن الدياجي.. وبريق سيف منصرم.. ما كل ذاك الابتسام؟! وكل ذاك الحسن؟ والثوب الجزل؟! عجبي يبدد وحشتي..! وكأنك في يوم عرس!! أو تضحكين بملء فيك.! وتقفزين بلا وجل؟!.. فأجبتها: هوناً عليك حبيبتي.. أتريدني بسواد ثوب أنكفئ في حجرتي؟ بتأوه.. وبأدمع.. أبكي القضاء.. وأقول في أنشودة: (سأموت قهراً لا محالة)! هذي مراسيم الشقاء وحشرجاته.. وهذه أدمعي؟! أنا يا ابنة الأنثى كيان ماثل.. لا يبتغي التجريح والتلميح والرمي.. ما ساقني للجرح حب تسلط.. ولا رغبة في حب ذل تعتلي.. لما رأيت الحسن فارق مهجتي.. ولوحت لي ببسمتي.. مع الغروب سنلتقي...! آثرتها وبقيت دهراً أرتقب في وحدتي.. أين الغروب؟!.. وأين معه بسمتي؟! مرَّ الفراق يشوبه عندي أغاريد الربيع.. لينثني سم الأعاصير من دمي.. نعم معذبتي.. مطلقة أنا.. ولي من العمر.. عشرون عاماً.. ما أجملي!! أقولها بكل فخر.. وابتغي في كربها بركات ربي! لأنني أنا الأنثى.. أنا المثلى... رغم الأعاصير العجاف.. لا أنحني.. سأظل أرقب من بعيد.. إشراق فجري من جديد.. وأقول في مقطوعة: رغم الألم.. يبقى الأمل.. يزهر أفانين المقل.. ويقيم للأحلام عمراً.. مشرقاً لا ينتهي.. نعم.. مطلقة أنا.. وسأبتسم..
إيمان الفهيد
** مجلة حياة العدد (56) ذو الحجة 1425هـ
- 25 - لأني أحبك أنت
إلى طالبة غالية أحبها جدا في الله.. أرجو الدعاء لها بالثبات..
(كلنا سنحاسب عن أعمالنا.. أعمالنا فقط.. لا أحد سيغني عنك أو يساعدك يومها.. لا أمك.. ولا أبوك.. ولا صديقتك.. الكل سيهرب منك.. تخيلي.. كلهم سيتركونك ويفرون منك!! أحب الناس إليك سيتركونك ويهربون.. ولن ينفعك سوى عملك الصالح فقط.. عملك أنت..)..
* * *
كنت أستمع لأبلة حصة معلمة التفسير وهي تشرح لنا بطريقتها المبدعة قوله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. وفصيلته التي تؤويه) وأنا متأثرة بشدة حتى كادت الدموع تنساب من عيني.. فقد كنت أفكر في نفسي وحالي.. أشعر أن الآية تخاطبني أنا.. نعم.. إنني أجاملهم.. أسايرهم.. أو أخاف منهم.. أخجل كثيراً من تعليقاتهم.. رغم أنهم لن ينفعوني في ذلك اليوم العظيم.. إنهم يحيطون بي.. وهم أقرب الناس إلي.. أبحث جاهدة عمن يساندني.. يعينني.. يثبتني.. لكن دون جدوى.. بل على العكس تماماً.. يسحبوني بشدة نحو عالمهم.. يقنعوني.. يضغطون علي.. فأضعف.. وأتراجع.. والألم يقتلني.. لكن هذه المرة سأتخذ قراراً بإذن الله..
* * *
حين أنظر لصوري مع أمي في الصغر.. أجد طفلة لا تحتوي شيئاً مني.. خصلات شقراء ناعمة مرتبة بتسريحة متقنة جداً.. معطف غاية في الأناقة من الفرو.. وضحكة تبدو ممتعة.. في معظم الصور لم تكن أمي تتركني على الأرض.. كانت دائماً تحملني رغم أن عمري تجاوز الخمس سنوات.. تحملني على كتفها.. تحضنني.. تقبلني.. تداعبني.. أنظر في ملامحها.. فأشعر بغصة.. دائماً تنظر إلي.. تنتظر مني أية كلمة أو ابتسامة لتفرح بها.. كم أحتاجها.. وأحتاج حبها وحنانها.. لكن شيئاً ما في داخلي.. يرفضها.. يبغضها على استحياء لأنها تركتني ولم تقاوم كثيراً من أجلي.. لماذا يا أمي؟ لماذا تركتيني بسهولة؟ لم نسيتيني كل هذه السنوات؟ ولم تسألي عني وتركتيني أكبر وأتجاوز أقسى سنوات الطفولة وأكثرها ألماً بعيداً عنك؟
* * *
تناديني ماما نجوى من بعيد.. جوجو.. هيا.. العشاء ينتظرك.. لا أعرف لماذا شعرت فجأة بالنفور من صوتها!!.. أصبحت – لا أعرف كيف- أنفر منها بعد أن عشت معها سنوات طويلة.. أشعر أنهم كلهم يخنقونني.. يقتلون شخصيتي.. يفرضون علي حياة لا أريدها ولا أحبها.. سرت بتثاقل نحو طاولة الطعام.. لينا وتالا –ابنتاها- سبقتاني للمائدة.. نظرت إليهما.. يرتديان نفس ملابسهما التي تعودا عليها في البيت.. شورت وقميص بلا أكمام.. كل شيء يبدو عادياً للجميع.. أبي الهاديء دائماً يجلس بصمت.. لم أشعر برغبة في تناول الطعام.. أخذت أنظر لهم جميعاً دون أن يشعروا.. أنظر بتفحص.. ماما نجوى تبدو فعلاً كامرأة غريبة.. ملابسها.. شعرها المصبوغ.. كلامها.. والأدهى عاداتها وأفكارها.. تالا..! .... تالا!! ألا تسمعين؟! كم مرة ينبغي أن أخبرك أن تغلقي الـ Headphone أثناء تناول الطعام؟ ترد تالا بالانجليزية.. أوه ماما.. أرجوك.. إنها تشعرني بالسعادة.. ماذا يضر أن أسمع أثناء الأكل؟ يضر أنك لا تسمعيننا ولا تشاركيننا الحديث.. نريدك معنا يا تالا.. أوف!.. هاه.. وألقت سماعات جهاز التسجيل الموصلة بأذنيها على الطاولة بغضب وقلة احترام.. شعرت بغربة حقيقية في هذه البيئة.. لكني ابتلعت ألمي على مضض.. فكل شيء سيسير هكذا شئت أم أبيت..
* * *
تزوج أبي أولاً بامرأة حين كان عمري ست سنوات.. لكنها لم تبقَ معنا سوى سنتين فقط.. كانت ترفض أن تبقى معي حين أخاف وأحتاجها في الليل.. وذات مرة ضربتني حين بللت سريري بعد ليلة كانت فيها حرارتي مرتفعة.. فغضب عليها أبي كثيراً.. وبعدها تركت البيت ولم أرها بعد ذلك.. وبعد سنتين تزوج أبي بماما نجوى.. وهي إنسانة طيبة.. ولديها ابنتان في سني تقريباً.. لكنها غريبة جداً.. فهي متحررة تماماً.. لباسها.. حديثها.. أفكارها.. كل شيء.. متحررة حد الانسلاخ من هويتها.. دينها.. أعرافها.. لكني لم أكن أكرهها.. ولا أحبها.. لا أكرهها لأنها لم تؤذني يوماً.. ولم تجرحني أو تقصّر قي معاملتي.. ولا أحبها لأني لا أشعر بأي حب لها، ولا لأسلوبها كله في الحياة.. كنت أشعر بالغربة معها.. أما ابنتاها فقد كانت علاقتي بهما سطحية جداً.. لم أكن أحب مشاركتهما احتفالات أعياد ميلادهما.. ولا أحاديثهما التافهة حول (أصدقائهما) في الإنترنت.. ولا سباقهما المحموم لجمع صور ريكي مارتن وتعليقها على جدران غرفتهما.. ورغم أن أمي (أجنبية).. إلا أني لا أتحدث بالانجليزية قدرهما في البيت.. ولا أشعر بانتماء لتلك الثقافة قدر ما يشعران به. وأحياناً أرحمهما.. لأنهما أبعد ما يكونان عن سعادة الروح الحقة..
* * *
لم يكن أبي أبداً جزءاً هاماً من حياتي.. وهو خارج الصورة دائماً.. إنه إنسان طيب وهادئ.. ولا يمكن أن يؤذي نملة.. لكنه مشغول دائماً.. لا يتكلم إلا نادراً.. ولا يهتم بأي شيء في المنزل.. لا يهتم أبداً.. أحس أنه يرحمني ويعطف علي.. لكني لم أشعر يوماً بحبه.. وتنتابني أحياناً فكرة أنه يعتبرني من أخطاء حياته التي يكفر عنها.. إنني مثل ورم صغير مؤلم في حياته.. أشعره بالألم كلما نظر إلى عيني.. فيبتعد عن مواجهتي..
* * *
أشد.. أشد ما يمكن أن يمر على الإنسان من لحظات ألم.. هي تلك التي يمر بها وهو يعلم أن لا أحد ممن حوله .. لا أحد تماماً.. يحس به أو يسانده فيها.. وأشدها على الإطلاق.. التي يشعر فيها أنه لا يعرف إلى أين يهرب من هؤلاء الأقرب إليه.. لا أستطيع أبداً أن أصف شعوري.. كلا.. لا أستطيع.. أن أصف كيف يمكن أن تستلقي في سريرك.. تبحثين عمن يمكن أن يسندك بكلمة.. فلا تجدين سوى الجدران الصماء.. وبرد الوحدة الأليم ينهش قلبك.. لا أب.. لا أم.. لا أحد حولك يدفعك نحو الخير.. أو حتى يساعدك عليه.. أفكر.. كيف.. كيف أستطيع أن أستمر في ارتداء عباءتي المحتشمة رغم غمزاتهم وضحكاتهم؟ كيف أرفض الجلوس معهم أمام قنوات الأغاني التي يفضلنها؟ كيف أرفض أن أجلس سافرة مع أخوالهم وأبناء أخوالهم؟ من أين لي بالثبات يا ربي؟ أبكي.. أريد أمي.. كلا.. أمي لن تنفعني.. أريد.. أريد عونك يا ربي.. يا حبيبي.. لأجلك أنت فقط.. لأني أحبك أنت سأقاوم.. ولأجل رضاك سأتألم.. لأني أعلم أنني على حق.. وهم على باطل.. وهم جميعاً لن ينفعوني يوم الفزع الأكبر.. فألهمني الثبات.. أقوم لأصلي الفجر.. أحاول أن أحصل على لحظة سكينة وخشوع.. وأدعو الله أن يثبت قلبي.. وأن يهديهم جميعاً.. رغم صوت موسيقى الروك القادمة من غرفة تالا..
** مجلة حياة العدد (57) محرم 1426هـ
- 26 - وجه يلسع .. وورقة اختبار
- خلاص يا بنات؟.. غداً الاختبار.. ادرسوا جيداً.. من لا تحصل على درجة عالية الآن لن تستطيع الحصول على معدل جيد فيما بعد.. عشرون درجة على هذا الاختبار.. انتبهوا!!
بعد هذه التهديدات المرعبة من أبله حصة.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وخوف بارد يشل أطرافي.. حتى معدتي انقبضت بقوة.. كم أكره الاختبارات.. كم أكرهها.. حين عدت للبيت.. كنت أشعر باكتئاب وضيق شديد.. توجهت نحو سريري بسرعة واستلقيت عليه قبل حتى أن أخلع عباءتي.. دفنت رأسي في الوسادة وأنا أكاد أبكي.. أريد أن أهرب.. بكل صدق.. أريد أن أهرب.. واختبئ بعيداً عن الاختبارات وما يتصل بها.. لا أريد أن أختبر.. لا أريد الخوف.. لا أريد قلق انتظار النتيجة.. كنت أشعر بالغثيان حين دخلت والدتي تدعوني للغداء.. لكن هذا كان آخر ما أفكر فيه.. - لا أريد شيئاً أرجوك يا أمي.. نظرت إلي أمي بحزن فقد عرفت أن هناك اختباراً في الأجواء.. - لا يصح هذا يا بنيتي.. إلى متى تشعرين بالرعب والخوف من الاختبارات.. لقد كبرت.. ليس هناك من يفهمني.. بكيت كثيراً وأنا أقول لهم.. أن خوفي من الاختبارات أمر خارج عن يدي.. شيء لا دخل لي فيه.. مرض قاتل أدعو الله أن يشفيني منه.. لكنهم يعتقدون أني أتحكم بحالتي ونفسيتي.. - أمي.. أرجوك.. أرجوك.. أريد أن أبقى لوحدي.. تنهدت أمي وأغلقت الباب ثم خرجت..
* * *
تعود بي ذاكرة سرابية لمشهد قديم تفوح منه رائحة الطباشير.. فصل صغير.. مقاعد متراصة.. طاولات مهترئة امتلأت بالرسومات وببعض قطع العلكة المتيبسة.. - يا الله يا بنات.. نتائج الاختبار.. تصرخ أبله منيرة بحدة على هذه الكائنات الغضة التي خرجت للتو من أحضان أمهاتها.. ثم تبدأ في سرد الدرجات مع التعليقات المناسبة - في نظرها.. - ندى عبد المحسن.. وتنظر إلي نظرات أقرب ما تكون لنظرات النمر حين يلمح فريسته ويراقبها.. هكذا أتذكر.. ثم تهز فجأة رأسها باستهزاء.. - يا سلام يا ندى.. يا سلام على الدرجة الحلوة.. - تعالي هنا يا ندى.. من شدة خوفي منها مكثت في مكاني.. لم أملك القدرة على التحرك.. فزأرت بقوة.. - أقول تعالي ما تسمعين.. يا (حيوا..).. كنت أرتعش وأنا أقوم من مكاني.. وكأني أتجه لمصيري المحتوم.. أوقفتني قرب السبورة أمام التلميذات وهن ما بين المتهامسات والضاحكات أو الخائفات من مصير مشابه لمصيري.. في تلك اللحظة أتذكر أني كنت أريد أمي.. أريدها بأية وسيلة.. أريد أن أهرب من الفصل إليها.. أخرجت المعلمة معي ثلاث طالبات.. ثم أخذتنا أمامها كالخراف الصغيرة نحو العقاب.. وكان العقاب.. هو.. أن تدور بنا على كل فصول المدرسة.. لتريهم أكسل ثلاث طالبات في اختبار الإملاء.. كان مشهداً مخزياً.. ونحن ندور منكسي الرؤوس خلفها وهي تشرح لكل فصل خيبتنا وفشلنا وتستهزئ بنا.. مرت على فصل بنات جيراننا.. وعلى فصل ابنة خالتي مشاعل.. وعلى فصل معلمتي الحبيبة نورة.. وكنت في كل مرة أشعر بخجل عظيم يكاد يذيبني.. لكني لا أستطيع الفرار أو الهرب.. كانت دموعي تنساب بخجل على وجهي المحمر.. وأنا أشهق بصمت.. وحزام مريولي يسحب خلفي.. وفجأة شعرت بالحاجة للذهاب للحمام.. قلت ذلك بخوف لأبله منيرة.. لكنها غضبت ورفضت.. كانت تعتقد أني أريد الهرب من مواجهة بقية الفصول.. تحملت قليلاً.. رغم السير الطويل في المدرسة والصعود بالدرج ثم النزول منه.. لكن.. صغر سني.. لم يساعدني أن أتحمل أكثر.. بكيت.. أرجوك معلمة منيرة.. أرجوك.. أريد الحمام.. لكنها رفضت وهي تسحبني بقوة من يدي.. وفي لحظة لا أنساها.. لم أستطع التماسك فيها أكثر.. وأحسست بنفسي فيها صغيرة جداً.. ومهانة لأقصى حد.. ومحتاجة لأمي أكثر من أي وقت آخر.. أحسست بالخجل يبلل ملابسي.. ثم.. لا أتذكر سوى الصراخ.. و.. أني كنت أريد أن أهرب..
* * *
أشعر بعطف شديد على تلك الطفلة البريئة التي لم تتجاوز السابعة.. التي تعتد بنفسها وبترتيب مريولها وبعطرها الطفولي كل صباح.. وتحرص على تسريحة مرتبة أمام زميلاتها.. أشفقت عليها بصدق من ذلك اليوم الذي غرقت فيها في أوحال الإهانة وتحطيم الذات أمام الجميع.. جميع من كانت تحبهم وتسعى لأن تكون الأفضل أمامهم..
قبل كل اختبار.. أصبحت أشعر بخوف برائحة الطباشير وطعم الدموع.. وأسمع أصوات صراخ من بعيد.. رعب قاتل يخنقني.. لا أعرف كيف أهرب منه.. ولا إلى أين.. ويزيد طيني بلة.. كلام أمي وأبي عن طموحهما بي.. تتباهى أمي أمام زوجة خالي.. - ندى.. ستدخل الطب بإذن الله.. - ما شاء الله.. - نعم.. وستصبح أول دكتورة في العائلة.. - لكن يا أمي.. أقاطعها بخجل.. - لكن ماذا؟ - المشكلة أن الطب يحتاج لمعدل عال جداً.. لا تتخيلي صعوبة ذلك.. - وما العائق أمامك.. أنت متفوقة ما شاء الله.. متفوقة جداً وذكية.. هل اللاتي دخلن الطب أفضل منك.. أبلع كلماتي بألم فمن المعيب أن نتناقش في ذلك أمام الحاضرات.. وتقطع أمي الحوار لتقول بثقة وصرامة.. - إنها ذكية.. لكنها تستحي أن تمدح نفسها..! ويسكت الجميع.. وأنا أشعر بالحمل على عاتقي يزداد.. والهم في قلبي يكبر.. والخوف يخنقني أكثر فأكثر..
* * *
قبل الاختبارات النهائية أصبت بمغص شديد.. قيء.. فقدان شهية.. حرارة وهذيان.. كنت أبكي طوال الليل والنهار.. لم يبق أحد من أقاربي لم يتصل ويمنحني شيئاً من توجيهٍ ولوم كنت أشعر أنه يزيد مرضي ويثير غثياني أكثر.. كنت أشعر بأني كالغريقة.. في لجة لا قاع لها.. أريد أن أهرب.. أريد أن أبتعد عن الاختبار.. وعن رعبه المميت.. لكن.. حتى.. لو.. لو.. تركت الدراسة.. وقررت عدم الاختبار.. فإن الأمر الآخر الذي أغرق فيه ولا أستطيع الهروب منه.. هو طموح أهلي الذي أثقل ظهري وملأ قلبي هماً.. كيف أهرب من نظراتهم.. ومن طموحهم بي الذي سيتحطم تماماً.. تقول أمي أن أبي يفتخر كثيراً بي وبتفوقي – المزعوم- أمام زملائه.. وسيزداد فخراً إذا استطعت دخول كلية الطب.. وتقول.. أن علي أن أنجح بتفوق لكي ترفع رأسها أمام قريباتها.. - ستعرف موضي أن ابنتها ليست الأفضل لأنها دخلت الحاسب.. فأنتِ ستدخلين الطب بإذن الله!
وحتى في أقصى حالات مرضي وانهياري قبل الاختبار الأول بيوم واحد.. لم ترحمني أمي.. فبينما كنت في المستشفى وأنبوب المغذي يدفع شيئاً من الطاقة في جسمي المنهك الخائر.. اقتربت الطبيبة الشابة ومسحت على رأسي بعطف.. (لماذا يا حبيبتي كل هذا الخوف من الاختبار؟ لماذا هذا الاهتمام؟ فلتحصلي على نسبة منخفضة!! نعم.. ماذا في ذلك؟ النجاح يكمن في داخلك أنت.. وليس مرتبطاً بأرقام المعدل.. لتحصلي على أقل نسبة وحتى لو لم تدخلي أي كلية.. فماذا في ذلك؟ كل هذا لأجل درجات الدنيا؟ إن الأهم يا حلوتي هو درجات الآخرة .. وليست درجات هذه الدنيا الفانية) كان كلامها مريحاً وكأنه دواء مسكن لنفسي الملتهبة.. لكن قبل أن تبدأ علامات السكينة والراحة بالظهور على وجهي قلبت أمي وجهها وقالت وهي تنظر للطبيبة بعتاب وضيق.. (لا داعي لهذا الكلام يا دكتورة.. فهي ذكية ومتفوقة وإن شاء الله تستطيع بقليل من الإرادة أن تحصل على أعلى النسب.. وتصبح طبيبة مثلك.. هي فقط مصابة بالعين حماها الله) تحطمت آمالي بأن يقتنع والداي بمحدودية قدراتي.. وبأني إنسان.. ضعيف.. له قدرات محدودة مهما فعل.. ودخلت الاختبار.. لكني خرجت من المدرسة بعد يومين إلى المستشفى مباشرة.. حيث مكثت أسبوعين أعالج من انهيار عصبي حاد.. لا زالت آثاره معي حتى اليوم.. ولازلت أشتم رائحة الطباشير.. وأشعر ببلل الخجل.. ووجها أمي وأبي يلسعانني بسياط الألم..
حملقت أمي بي وصرخت بقوة.. - بنت!! ألا تستحين؟ قومي.. بسرعة!.. ساعدي البنات في وضع العشاء.. شعرت بماء ساخن يصب على رأسي خاصة وأننا أمام زوجات أخوالي وخالاتي كما أن هناك بعض القريبات الأبعد.. قمت بسرعة وأنا أتعثر بطرف تنورتي من شدة الارتباك.. أسرعت للمطبخ وأنا أرتعش من شدة حرجي محاولة أن أخفي مشاعر كثيرة تتضارب داخلي.. كان المطبخ مزدحماً بالخادمات وببنات خالاتي.. أخذت أتساءل عما يمكن أن أفعله.. لكن أحداً لم يجبني.. تناولت طبق (السليق) الكبير من إحدى الخادمات لأحمله نحو السفرة.. كنت أجري بسرعة لأضعه على السفرة حين.. لا أعرف كيف – انزلقت قدمي.. و.. هووووب.. وجدت نفسي على الأرض.. وقد طار الصحن ليسقط على الأرضية عن يميني.. واندلق (السليق) على الأرض وتناثر في كل مكان.. تمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعني.. تعالى صراخ أمي.. - وجع!.. وجع! .. الله يفشلك يا (الرفلة)! كانت قدمي ملتفة وتؤلمني بشدة.. لكني تظاهرت بالابتسام وعرقي يتصبب.. وضغطت على نفسي بشدة لأقوم بسرعة رغم الألم الشديد وأقفز نحو المطبخ.. أحضرت المنشفة وبدأت أمسح وأنا في قمة الحرج.. بينما أطراف ملابسي متسخة بما تناثر عليها من طعام.. كان كل من في الغرفة ينظر إلي بشيء من شفقة.. أخيراً مسحت خالتي على ظهري بحنان.. وقالت.. - لا بأس يا حبيبتي اتركي الخادمة لتكمل عنك.. أهم شيء أنه لم ينسكب عليك أو يحرقك ولله الحمد.. سحبتني من يدي.. وأنا أرتعش من شدة الحرج..
× × ×
في طفولتي.. كنت أنظر طويلاً لخالتي.. وكيف تعامل بناتها بحنان وحب.. كنت أستلذ بإحضار أي شيء لها فقط لكي أسمع منها كلمة (حبيبتي).. يا سلاااام ما أجملها.. كنت أنتشي للحظات حين أسمعها غير مصدقة.. وكثيراً ما دعوت الله أن أصبح ابنتها بأية طريقة.. وحين كنت متأثرة بقصص أفلام الكرتون في طفولتي- مثل (ريمي) و(بشّار) وغيره- كنت أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي أكتشف فيه أن أمي ليست أمي الحقيقية بل هي خالتي الحنونة أو أم حبيبة أخرى لا زالت تبحث عني!!.. كنت أعامل نفسي كغريبة يتيمة تعيش في هذا البيت.. فلا أحد يهتم بي أو يقول لي كلمة طيبة واحدة.. الكل يصرخ علي.. والكل يعاملني بدونية وبقسوة.. كنت أراقب تصرفات بعض الأمهات مع بناتهن فأشعر بالبون الشاسع.. زوجة عمي كانت تستشير بناتها حتى في اختيار ملابسها هي.. وفي اختيار أثاث بيتهم.. كانت تثق بهن.. وتمنحهن امتيازات نادراً ما أحظى بجزء منها.. كنت أغبطهن لأنها تعاملهن كنساء ناضجات.. وتناقشهن في شتى الأمور.. وحين كنت أرى كيف كانت خالتي تعامل بناتها كنت أعود لغرفتي في الليل وأبدأ في البكاء.. كانت تحنو عليهن.. وتدللهن بأجمل الألقاب.. تمدح مظهرهن.. وطبخهن.. وذوقهن.. وتتفنن في تعزيز ثقتهن في أنفسهن مقارنة بالآخرين.. وفي كل مجلس كانت تذكر بناتها بالخير.. على العكس من أمي التي ما فتأت تنشر الأخبار عن فشلي وإهمالي مهما فعلت ومهما حاولت إرضاءها.. لقد حطمت ثقتي بنفسي تماماً..
× × ×
حين مضت الأيام والسنون.. نظرت إلى نفسي.. فوجدت أني أصبحت حطام إنسان.. إنسانة ضعيفة الشخصية محطمة جبانة.. ترتجف كلما حادثها أحد.. ترتبك عند أبسط حوار.. حتى شكلي لم أعد أهتم به.. فكلما قمت بتعديل شكلي حسب ما أراه مناسباً.. كانت أمي لي بالمرصاد فهذا لا يناسبك.. وكان من الأفضل لو قمت بذاك.. البسي مثل ابنة فلان.. ومشطي شعرك مثل فلانة.. كنت أتمنى لو أمتلك الحرية لأهتم بنفسي كما أحب لكن لم أكن أستطيع.. فقد كنت أخاف انتقادها وسخريتها بي حين أقوم بأبسط تغيير.. تزايد ضعفي وخوفي بشكل كبير.. كنت أشعر أن الجميع يحتقرني.. حين أجيب على سؤال في المدرسة.. كانت يدي النحيلة ترتجف والعرق يتصبب من جبيني بشكل ملفت.. لم يكونوا يعرفون أني لم أتمن يوماً لنفسي أن أكون هكذا.. لكنه شيء أقوى مني يحطمني ويضغط علي بقوة..
× × ×
ذات يوم.. كنت أجلس في الفسحة وحدي كالعادة.. أستند لجدار أصفر مثل وجهي الشاحب وأتناول شطيرتي.. حين مرت من بعيد معلمتي الجديدة أسماء.. كنت أنظر إليها.. ما شاء الله.. إنها شعلة من حماس ونشاط.. هي فتاة لا تكبرني سوى بأعوام بسيطة.. لكنها تفور بالحيوية والنشاط والثقة بالنفس.. لديها خطط لتطوير المدرسة وللنهوض بأنشطتها.. كلامها ممتع ودرسها مسلٍ جداً.. في عينيها شعاع سحري .. مزيج من سعادة ومرح وقوة.. حين أنظر لعينيها أشعر بأن شيئاً من سعادة تتسلل إلى نفسي.. تجعلني أتمنى أكثر لو لم أكن أنا.. بل شخصية أخرى.. كانت تقفز بخفة بحذائها الرياضي حين مرت بقربي.. فمدت عنقها نحوي بطرافة وقالت بمرح.. (أهلاً يا جميلة..!) شعرت بصدمة.. وحرج.. من؟.. أنا؟.. جميلة؟.. التفت حولي.. واحمر وجهي خجلاً.. (ممكن مساعدة يا فجر؟.. إذا سمحت؟) كدت أطير من الفرح.. مساعدة؟ بالتأكيد.. على الأقل ستكون أمتع من الجلوس وحدي على الأرض المغبرة.. قمت من مكاني بخجل.. ومضيت معها نحو المعمل.. كانت تريد مساعدتها في تنسيقه وترتيبه.. صعدت على الكرسي وسحبت إحدى الكراتين فتطاير الغبار منه.. (يا الله!! لا أعرف كيف مر على هذا المعمل عشرات المعلمات في مدرستكم دون أن تفكر إحداهن في ترتيبه وتنظيفه وتنسيق شكله..؟!) لم يكن لدي ما أستطيع به تبادل الحوار معها.. فسكت بخجل.. أخذت تنزل المزيد من الكراتين وأنا أتناولها منها.. (الترتيب مهم جداً.. لا أستطيع أن أعمل إذا لم تكن غرفتي مرتبة.. كل إنسان يحتاج لترتيب أشيائه ما بين فترة وأخرى..) أمسكت فوطة مبللة وبدأت تمسح الأرفف.. (بل.. يحتاج.. حتى لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك؟) أشارت بيدها لأناولها منظف الزجاج.. (أليس كذلك؟) ارتبكت وقلت.. (م.. ماذا؟) (أليس كل إنسان بحاجة لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى؟) (ما الذي تقصدينه يا أستاذة؟) (ألا تعتقدين أن كل منا بحاجة لأن ينفض الغبار عن نفسه ما بين فترة وأخرى يعيد بناء شخصيته وصقل أفكاره؟) احمر وجهي قليلاً.. وقلت مختصرة عليها الطريق.. (لا أستطيع..!) استمرت في التنظيف بنشاط، وقالت بهدوء وببساطة (لماذا؟).. (لو كانت ظروفك مثل ظروفي لقدرتني)..
أخذت تعيد الكراتين لمكانها بترتيب وتناسق.. ثم جلست وقد أنهكها التعب.. ونظرت إلي بقوة.. وقالت.. (تعتقدين أني ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب؟.. أو أنني كنت سعيدة في أسرة دافئة؟.. كلا.. إذا كنت تعقدين ذلك فأنت مخطئة!!.. انظري إلي.. لا تكوني ضعيفة وترمي السبب على الآخرين مثل أسرتك وبيئتك.. أنت تستطيعين أن تكوني قوية إذا أردت ذلك.. القوة.. هي شعار المؤمن ورمزه.. القوة التي أقصدها هي العزة.. والمؤمن دوماً مميز بعزته.. لا أحد يستطيع أن يحطمك أو يضعفك إذا اعتقدت أنك قوية بإذن الله وتوكلت على الله.. كوني قوية.. ولا تستسلمي لإغراء الضعف.. لا أحد سيأتي ويجعلك قوية.. أنت فقط من تستطيعين ذلك بإذن الله..)
قلت بتأثر.. (أمي.. إنها أمي يا أستاذة.. إنها تحطمني.. صدقيني.. أنت لا تعرفين..)
ردت بثقة وسرعة.. (مهما كانت شخصية أمك قاسية.. فهذا ليس سبباً للاستسلام.. إنها أمك أولاً وأخيراً.. عليك برها وإرضاؤها وتليين جانبك لها والصبر عليها.. لكن في نفس الوقت.. لا تجعلي قسوتها سبباً لتحطيمك.. كوني أقوى واصمدي وإلا لن تستطيعي العيش طويلاً في هذا العالم القاسي!! وتذكري دوماً أن ما لا يقتلني.. يتركني أقوى.. كل الآلام والجروح تستطيعين ترويضها وجعلها دافعاً لقوتك وتحملك بإذن الله)..
كنت أسمع كلامها بتأثر عجيب وأنا أخفي دموعي بالنظر للأرض..
(فجر.. انظري إلي.. لا تنظري للأرض..! فجر!.. أنت إنسانة رائعة فيك الكثير من الصفات الطيبة.. لكنك تدفنين كل ذلك باستسلامك للضعف والخوف والانطواء!)
رن صوت الجرس معلناً انتهاء الفسحة، فبدأت ترتب ما بقي وتجمع الأدوات بسرعة وهي تقول.. (حسناً سأقول لك شيئاً.. إذا كنت تعتقدين أن الأقوياء هم من لم يمروا بظروف قاسية.. فأنا عشت بين أبوين منفصلين.. عشت متنقلة ما بين بيت أبي وجدتي.. هل جربت يوماً شعور ألا تكوني مستقرة في بيت واحد؟ أنا عشت هكذا.. ولن أذكر المزيد من التفاصيل الحزينة.. ويكفي أن تعلمي أني حرمت من رؤية أمي خمسة عشر عاماً.. بل هي التي لم تكن ترغب برؤيتي أصلاً!!.. لكن فقط.. أنا .. لم أرد أن أكون ضعيفة.. لقد قررت أن أصبح قوية ودعوت الله أن أكون كذلك لأساعد غيري)
خرجت معها من المعمل وأنا منبهرة تماماً.. قالت بمرحها المعتاد.. (سنعود لترتيبه مرة أخرى قريباً.. لا بد من إعادة الترتيب ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك)
ابتسمت لها موافقة.. وفي أعماقي شيء رائع يشرق..
** مجلة حياة العدد (59) ربيع أول 1426هـ
- 28 - ورأيت وجهها الآخر ..
أناس كثر نراهم في هذه الحياة.. لا نرى سوى أقنعة وجوههم الجميلة.. ثم ما نلبث أن نصدم بحقيقة قبحهم.. وآخرون.. على العكس تماماً.. تنضح أرواحهم الجميلة من أعينهم.. رغم الأقنعة.. رغم الألم..
* * *
كان يوماً عادياً من أيام دراستي في المعهد.. حين رأيتها تدخل علينا على استحياء في القاعة.. - عفواً أستاذة لمياء.. أنا الطالبة الجديدة في هذه الدورة.. أروى عبد الله.. هل يمكنني الدخول؟ نظر إليها الجميع باستغراب.. الطالبات.. المدرسة.. الكل يتفرس في وجهها الغريب.. لكن كان من الواضح.. أنها كانت مستعدة لهكذا نظرات.. ابتلعت المعلمة ريقها بصعوبة وقالت هي تحاول أن تتماسك وتخفي نظرة استغرابها أو تخوفها المفاجئ.. - حسناً.. تفضلي يا أروى.. بقينا ننظر بغباء وكأننا نريد أن نشفي غليلنا من شيء ما.. نتفرس في الوجه المشوه الغريب.. كانت تسير بهدوء وثقة.. بينما أخذت الفتيات يبتعدن بكراسيهن المتحركة عن طريقها.. وكأنهن يشعرن بشيء من خوف أو ريبة من هذه الإنسانة المسكينة.. وقفت تبحث عن مكان تجلس فيه.. كانت معظم الأماكن مليئة.. لا يوجد سوى مقعدين فارغين فقط.. حين اقتربت من شيماء لتجلس قربها.. قالت بسرعة.. وعلى وجهها ملامح غريبة تجمع الشعور بالتقزز مع الشفقة مع الخوف مع أشياء أخرى.. - هذا الجهاز معطل.! كنا نعلم أن الجهاز يعمل.. لكننا سكتنا.. علمت أنها شعرت بأنها غير مرحب بها.. شعرت بنسمة إنسانية تمر على قلبي.. ضغطت على نفسي ودعوتها لتجلس قربي.. - هذا المكان فارغ.. تفضلي.. أتت بهدوء.. وحين اقتربت.. شعرت أكثر بمدى غرابة وجهها.. لكني حاولت تركيز نظري على الجهاز حتى لا أنظر إليها.. في البداية كنت حين ألتفت فجأة لأنظر إليها.. أشعر بشيء من الخوف.. كانت بلا أنف تقريباً.. وبلا شفتين.. وعيناها بالكاد تظهران من فتحتين صغيرتين.. مع تجعدات كثيرة على جوانب وجهها.. وحين انتهى اليوم.. خرجت بهدوء وحدها.. فبدأت همهمات البنات وأصواتهن الحادة.. - يا الله.. مسكييييينة.. ! - يا حرااام... لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. إذ بدأ البعض بإبداء مشاعر التقزز والخوف منها.. قالت إحداهن.. - صراحة شكلها يخوف.. خفت منها مرة.. - فعلاً أنا بصراحة لا أستطيع التحمل.. أنا لم أدفع مالي لحضور دورة مع هكذا أناس..! سبحان الله! قلت في نفسي.. ألهذه الدرجة نتجرد من إنسانيتنا أحياناً..
* * *
كانت تحاول دائماً أن تخفي وجهها عنا فتلفت إلى أحد الجانبين.. وكنت أحاول بدوري أن أعود نفسي على النظر إليها، حتى أتخلص من شعور الصدمة الذي يباغتني كلما التفت نحوها.. انسحبت شذى من الدورة فهي كما تقول لم تستطع الجلوس في المكان فقد كانت تشعر (بالخوف) والرغبة في البكاء كلما نظرت إلي أروى.. وعرفت كيف أن أقسى الناس قلوباً هم من يدعون أنهم الأكثر (رقة) وحساسية أحياناً.. البقية لم يوضحوا أي مشاعر، لكن تصرفاتهم كانت جامدة جداً وحذرة مع المسكينة.. وأحياناً كانوا يتفرسون في وجهها حين تتكلم بشكل واضح.. أما أنا فحاولت أن أكون طبيعية قدر الإمكان معها.. ويوماً بعد يوم بدأت أعرف الروح الجميلة التي في داخلها.. كانت أروى فنانة في الرسم.. وحين أبديت لها بعض الاهتمام.. وجدتها تحضر لي بعض رسوماتها الرائعة.. والتي وقفت مبهورة أمام جمالها وألوانها الرائعة التي تكاد تنضح بالحياة.. كل هذا الجمال في داخلها؟ سألت نفسي.. سبحان الله.. كانت دقيقة في عملها.. مرتبة.. وكانت أسرعنا تعلماً.. وأكثرنا مهارة في الحاسب.. وذات يوم سألتها.. - في أي مرحلة دراسية أنت يا أروى..؟ - أنا؟ ضحكت ثم قالت.. - ستفاجئين! - لماذا.. - لا زلت أدرس في الصف الثالث المتوسط.. مسائي.. سكت.. فقد كانت بالفعل تبدو على الأقل في المرحلة الجامعية.. لكنها قطعت تعجبي وقالت.. - تركت الدراسة لمدة سبع سنوات بعد الحادث الذي شوه وجهي.. شعرت بالرهبة لأنها بدأت لأول مرة تتحدث عن هذا الأمر.. لم أعرف ماذا أقول.. لكني ابتسمت وأبديت اهتمامي.. فأخذت توضح.. (كنت قد أنهيت الصف الثاني المتوسط.. وفي أول أيام العطلة الصيفية.. حدث حريق كبير في بيتنا.. وكنت وحدي في غرفتي.. محاطة بالنيران..) ابتلعت ريقها وقالت وهي تشير لوجهها وتتحاشى النظر إلي.. (طبعاً احترق ثلاثة أرباع جسمي.. بل إنهم حين أخرجوني لم يكن لي وجه..! ابتسمت وكأنها قالت نكتة.. لتحاول أن تخفف من الشعور بالألم الذي بدا على وجهي..) كانت تمسك بفأرة الحاسب وتحاول أن تشغل نفسها بفتح بعض الملفات وهي تتحدث.. (مكثت ثلاث سنوات وأنا تحت أيدي جراحي التجميل.. أتحمل الآلام المبرحة.. القاتلة لكي تظهر لي معالم وجه..! وبعد جهد جهيد.. ظهر هذا الوجه.. ولله الحمد.. أفضل من لا شيء!!) استغربت من قوتها.. وكيف تتحدث عن الأمر بشكل عادي.. شعرت بإعجاب شديد بشخصيتها.. (في السنوات الثلاث الأولى كان تفكيري ودعائي منصباً على أن يرحمني الله بالموت.. وأتخلص من الألم القاتل.. ألم الحروق.. وألم فقدان وجهي الذي كان جميلاً.. وألم فقدان قدرتي على الذوق والبلع بسهولة.. على التحسس بأصابعي.. ألم فقداني لأنوثتي). تنهدت وهي تبتسم بمرارة.. (فيما بعد.. بدأت أقتنع شيئاً فشيئاً أن هذا ابتلاء من الله.. وصبرت واحتسبت.. لكن الألم الأشد الذي بدأ يواجهني.. هو.. مواجهة الناس.. إنه أشد الآلام فتكاً يا نورة.. ألم لا تتصورينه.. ألم يحرقني أكثر مما أحرقتني النار نفسها.. نظراتهم.. شفقتهم.. تقززهم.. أو استهزاءهم أحياناً.. تخيلي أن تصرخ فتاة وتقول لزميلتها.. "انظري انظري! المسكينة.. انظري إلى وجهها كيف يبدو..!" وبصوت تعلم جيداً أنه يصل لمسمعي..) شعرت بالخجل الشديد أثناء حديثها.. لأن هذا هو ما يحدث بالفعل للأسف الشديد: (انطويت في بيتي سبع سنوات كاملة.. لم أكن أريد أن أخرج لأحد أو أن يراني أحد.. حتى بنات عمي لم أكن أشعر بالراحة من رؤيتهن لي وهمساتهن الواضحة بعد قيامي.. كنت كمن ينتظر الموت البطيء.. فقط أصلي وأقرأ القرآن.. وأشغل وقتي بأي شيء.. لكن شاء الله أن تتوفى أمي.. رحمها الله.. وهي التي كانت تسندني وتدعمني وتشد من أزري.. توفت وأنا في أشد الحاجة إليها.. فهي التي تغدق علي بالحنان.. وتواسيني وتذكرني برحمة الله.. وهي التي كانت توفر لي ما أحتاجه.. شعرت بصدمة قوية بعد فراقها.. أصبحت الدنيا أكثر ألماً.. وانعزلت أكثر في غرفتي فترة أبكي).. تنهدت بألم وبدا عليها التأثر وأكملت حديثها وكأنها لأول مرة تتحدث هكذا: (بعد وفاتها بفترة.. عرفت أن علي أن أتحرك.. أن أفعل شيئاً.. أن أنفض غبار اليأس والحزن عني.. فالعزلة لن تنفعني.. ربما كانت أمي توفر لي حاجزاً يحميني من الناس..لكن بعد أن فقدتها كان علي أن أواجه الناس بشكل أو بآخر.. دعوت الله كثيراً أن يثبتني ويمنحني القوة.. وبدأت بالخروج شيئاً فشيئاً.. عدت بصعوبة لمقاعد الدراسة.. وبدأت أتعود على نظرات الحمقى والقساة.. أحاول أن أعزي نفسي بأن هذا قضاء الله وقدره.. وعلي أن أرضا به.. والحمد لله.. إذا كان الله قد أخذ وجهي في الدنيا فأسأل الله أن يمنحني وجهاً خيراً منه في الآخرة.. وإذا كان الله قد أذاقني ألم نار الدنيا فأسأل الله عز وجل أن يقيني نار الآخرة..) كنت مبهورة بقصتها وبكلامها فقلت بهدوء.. - (ياااه.. ما شاء الله عليك..!) - (الدنيا لا تستحق أن نحزن عليها يا نورة.. والله لا تستحق.. هذا ما تعلمته.. فلا شيء باق.. جمالك قد يذهب في أي لحظة.. وحياتك كذلك.. الأهم.. هو.. مصيرنا في الآخرة..) شعرت بأني صغيرة أمام حكمتها.. قوتها.. جمال روحها.. وإيمانها.. ولأول مرة رأيت بالفعل وجهاً آخر لأروى.. وجهاً جميلاً.. رائعاً.. مشرقاً..