في صباح يوم مشرق وداخل مدرستي العزيزة.. أطلق اسمي في جنباتها.. (منى صالح) .. الطالبة المثالية.. كم كانت السعادة تغمرني في تلك اللحظة والأمنيات تتراقص أمامي.. فبادرتني (سمية) بقولها..
- هنيئاً لك يا منى.. وما أسعد أبيك بك...
كلماتها تلك ترددت عليَّ فأدمت جروحاً غائرة، فهي لم تكن تعرف أني لا أملك أباً كغيري من الناس، وكم مرة تمنيت أن أقول (بابا).
أغمضت عيني فتذبذبت أمامي صور شتى بين الإغفاء واليقظة.. كنت أنزف حنيناً إلى أيام نائية وآمنة أستعيد فيها طفولتي معه.. لكني أعود خالية اليدين.. فقد غابت السعادة عن حياتي لتغادر معه عبر مسافات بعيدة تركني فيها وحيدة.. أعانق أحزان حياتي طوال تلك الليالي.. وحاولت احتضان خياله والاحتماء به من قسوة الأيام..
القلق يسيطر على مخيلتي وأصبحت لا أملك سوى ملف ذكريات حزين.. أسترجعه كل يوم ورقة ورقة.. فكل قطعة من جسدي تشتاق إليه.. فكم تمنيت لو استطعت أن أقاسمه عمري ليعيش معي.. العجيب أن توقفي عند هذه الحقيقة استولى عليَّ حتى بلغت درجة الانشغال عن حالي فشعرت كأن أبواب الحياة قد أغلقت في وجهي.. وعزفت عن المتع... وانعزلت حزينة زاهدة.. حيث قررت أن أضع ستاراً حديدياً بيني وبين أفكاري..
أعادت أمي عليَّ السؤال، وهي تربت على كتفي وتقول: منى ماذا بك؟
- أبي.. أين هو؟
فأجابتني وهي واجمة.. - ما الذي ذكرك به؟ وهو قد توفي منذ كنت رضيعة..
فرددت بلهجة باكية.. - وهل تتوقعين أني نسيته طوال هذه السنوات... إني أراه كل يوم.. أريد أباً..!
صعدت إلى غرفتي وألقيت بجسدي على سريري وعبراتي تنهمر بحثاً عن إجابة لما أنا فيه... فشاهدت أمامي رجلاً يقول: - السلام عليك يا ابنتي.. تبكين عليَّ؟.. لست أول من رحل.. ولا آخر من يودع الحياة الفانية.. لست الوحيد في العالم الذي سلم الروح إلى بارئه بصمت.. ولست أنت الوحيدة التي فجعت بوفاة والدها.. ولست وحدك من تبكي على عزيز افتقده بل هناك الكثير.. والكثير ممن يمتحن الله إيمانهم في هذه الدنيا..
ثم تابع يقول.. - جففي دموعك.. ولا تحزني.. ولا تتأسفي.. أعلم يا ابنتي أن دموعك صادقة وعبراتك مخلصة.. وحزنك عميق.. فقد افترقنا منذ أن كنت في مهد الطفولة، ولم يخطر ببالك هذه الأحداث.. يا بنيتي جففي دموعك فالدموع أوهن من أن تهدم شيئاً.. ولكنها تهدم صاحبها.. ولا تقولي سوى.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. فتحن نموت ونندثر فننسى.. ولا يبقى منا سوى الذكريات وأعمالنا الصالحة..
كان كلامه يدخل إلى أعماق قلبي العطشى فيرويها.. وأنا أنظر إليه بشوق.. فأكمل مبتسماً.. - أعلم أنك تحلمين بي.. وتودين رؤيتي.. إذاً أسرعي وتبتلي إلى الله بالدعاء ولكل مسلم ومسلمة وافاهما الأجل أو هدهما المرض.. بنيتي.. لن أقول الوداع.. ولكن إلى اللقاء في يوم لا ظل إلا ظله بمشيئة الله..
ثبت إلى وعيي بعد ذهول المفاجأة فشعرت بصدري يضطرم وبدمعي ينهمل.. وكل جوارحي تردد (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماضٍ في حكمك عدلُ في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني).
= = =
والآن سنزيح الستار عن مشاركة جميلة خطتها قارئة متميزة.. وهي رغم بساطتها إلا أنها تفوق بعبق البدايات الجميلة وتلمع كسنابل أينعت للقطاف
سأكون أصلب من حجر شذى الحميد
كان كل شيء هادئاً كما اعتدت عليه.. والغرفة كما هي باردة.. الستائر منسدلة وكل شيء مبعثر في الغرفة الملابس والكتب والدمى.. نظرت بصمت إلى الأشياء المبعثرة.. أوصدت الباب بقوة وأنا محملقة في الغرفة أبحث عن جواب لأسئلة ظلت تلح علي منذ زمن بعيد.. جلست على السرير منهكة.. أسندت ظهري للجدار وتاهت الأفكار في رأسي.. ليتني أستطيع أن أنام.. أحس أن حشرجة ومرارة تغص في حلقي.. أبتلع الدموع وأشعر بمرارتها.. أنظر إلى المكتبة التي تغص بعشرات الكتب.. ولكني لا أقوى على القراءة في مثل هذه الحالة.. فبالي مشغول بما هو أهم..
في هذا المساء الدافئ يسافر وجهي بعيداً.. كنت أظن أن الحياة قد بدأت تنثر ورودها على وجهي بعد طول صبر.. ولكني لم أنل إلا مزيداً من الصفعات... كانت بريئة حينما تلقيت الصفعة الأولى ثم أتت الصفعة الثانية وتوالت الصفعات.. حتى اعتاد وجهي على الصفعات كجزء لا يتجزأ من روتين كل يوم..
قاسيت مرارة الحرمان وأنا في سن صغيرة.. ثم التقيت به وأنا في أشد حالات ضعفي فيما يسمى (شات) فتشبثت به كالغريق الذي يعلق أمله في قشة.. تشبثت به وأنا لم أفهم بعد معنى الحب.. كل ما كنت أفهمه أن في شخصه ما يشدني ويجذبني إليه.. هذا الرجل الذي سمح لنفسه بمناداتي (حبيبتي) .. وكانت المرة الأولى التي أنادى بهذه الطريقة على لسان ذكوري.. وأخذ يغدق علي بسيل من العبارات الرقيقة المسبوكة بدقة محترف.. لا أعلم أكان حبي له حقيقة أم مجرد إعجاب برجل ساقته الأقدار في طريقي.. الهدوء يعم المكان.. يساعدني على الاسترسال في التفكير.. فقد نامت عيون الجميع إلا عيني اللتين أتعبهما السهاد.. تسرب صوت المؤذن داخل غرفتي ليحرك مشاعري من جديد.. رددت النداء معه كلمة.. كلمة.. حتى شعرت بالراحة.. صدقت أختي حينما قالت أنه لا راحة توازي الراحة الحاصلة بعد سماع صوت المؤذن وقت الفجر.. والناس نيام.. وأنا وحدي متيقظة أتفكر به وبوضعي ثم أردد النداء بعد المؤذن.. أشعر برعشة تسري في أوصالي وأطراف أصابعي .. رعشة غريبة.. رغبة جامحة في البكاء.. هل هذا ما يسمونه بالخشوع.. أم أنها رغبة في البكاء لا أكثر.. أبكي.. لا لن أبكي عليه.. فهذا بكاء الندم والتوبة عما فات.. لن أنكسر بسببه فأنا بحاجة إلى كل ذرة قوة.. يجب أن أساند نفسي وأمدها بجرعات من القوة والإيمان.. عليَّ ألاّ أتركها تتوه في غياهب الحزن وحدها لتتمكن منها.. ثم لأجل من كل هذا البكاء؟؟ لرجل لا يكن لي قطرة من احترام.. لرجل لا يهمه من أمري سوى طولي ووزني وجمال صوتي وكمية التنازلات التي سأقدمها له.. لرجل يرى أن جميع النساء في النت سخرت له ولأمثاله.. لرجل يعتقد أن كل من تدخل عالم النت هي متحررة من القيم يحل له إقامة علاقة معها بكل بساطة.. كلا.. غيابه لن يؤثر عليَّ إلى هذه الدرجة.. فقد أرشدني الله من حيث لا أحتسب.. ألهمني الرشد حينما صرخت في وجهه وقلت لأول مرة (لااااااااااااا) حينها ظهر على حقيقته نزع عنه ستار الحب والعطف والرحمة.. ظهرت لي أنيابه.. لم يتوقع مني هذه الصحوة المفاجئة.. هزه اعتراضي.. أغضبه صدودي وامتناعي.. بدأ بالتكشير والصراخ.. ثم حاول تلطيف الجو بتمثيل الحب والغرام مرة أخرى.. ولكني استيقظت أخيراً.. ولن يعود قادراً على خداعي مرة أخرى.. لقد رأيت ما فعله بغيري بأم عيني وسمعت آلاف القصص من أفواه فتيات ذقن أقسى الآلام نتيجة لتصديق كلامه المعسول.. عندها قرر الرحيل.. عله يجد ضحية أخرى تكون أكثر سذاجة مني.. قال لي بكل وقاحة بعد أن لمس حجم التغيير الذي طرأ عليَّ وقرأ عبارات الاحتقار بين كلماتي (أنت لم تحبيني قط ولن تحبي أحداً لأنك امرأة بلا مشاعر ولا تفهمين معنى الحب.. أنت أشد برودة من الثلج.. أنت كالحجر في صلابته.. فهنيئاً لك هذه الحياة الخالية من المشاعر..! وأنا متأكد من أنك ستتجرعين مرارة الحرمان من بعدي وستكون حياتك أشبه بالموت البطيء منها بالحياة.. فوداعاً يا من خدعتني بزيفك وسذاجتك المصطنعة.. يا من تحاولين الآن تمثيل دور المرأة العفيفة أمامي الآن بعد أن سقيتك من كأسي أياماً طوالاً.. فقد مللت مني الآن وحان الوقت للبحث عمن يقدم لي شيئاً آخر لم أستطع تقديمه لك.. فلا تحاولي إقناعي بصفاء سريرتك.. فكل فتيات النت سواء.. كلهن يدعين الصلاح والحياء.. وهن بعيدات كل البعد عن ذلك.. يدعين الدين والاستقامة وأنها أول علاقة لهن! اذهبي فلن أطيل عليك.. الله يوفقك بالحبيب الجديد!)
لكن سأنسى أمره وأعيش حياتي بلا مشاعر... ولكن هل أنا حجر فعلاً حتى أعيش بلا مشاعر؟ هل أنا ثلج كما قال؟
لا لست حجراً.. قال لي يوماً بأني حجر.. أشارك الجوامد بخواص كثيرة.. قال إني غير كل النساء.. ليس لدي مشاعر ولا أحاسيس.. أعلم أنه لا يؤمن بما قاله لسانه.. وأنه ما أطلق علي هذا الحكم الجائر إلا لمعرفته بطبيعتي العاطفية الرومانسية وبطيبة قلبي.. فأحب أن يؤثر علي بهذه الكلمات علي أتراجع عن قراري وأخضع لمطالبه..
فلو كنت حجراً كما يقول لما تفكرت بكلماته كل هذه الأشهر.. لو كنت حجراً لكنت عرضت سمعتي وسمعة أهلي للسوء بمثل هذه العلاقة المشبوهة.. لو كنت حجراً لكنت وافقت على بناء سعادتي – إن كانت سعادة – على تعاسة الآخرين وأولهم أهلي ثم زوجته التي لم يفكر يوماً في أمرها..
قال لي بأني حجر لا يعرف عظيم المشاعر التي يعج بها صدري فأراد أن يثيرني بكلماته القاسية.. ونجح بذلك.. لكني فهمت الدرس جيداً.. واقتنعت بأني سأكون أكثر صلابة من الحجر إن بعت نفسي وتخليت عن ديني من أجل شخص مثله..
- - - - - - - - - - الندية شذى.. مشاركتك جميلة وتبشر بموهبة واعدة إن شاء الله.. القصة تدور في موقف واحد تتداعى فيه أفكار البطلة وهذا أسلوب فني جميل ومتجدد ويبتعد عن السرد المتسلسل التقليدي للأحداث، كما أن القيمة التي تحويها سامية جداً.. وكذلك اللغة كانت سليمة تقريباً.. أنصحك بالقراءة المكثفة لتطوير موهبتك.. كما أتمنى أن تنتبهي لحدة بعض الألفاظ والتي قمت بتغيير بعضها حتى لا تؤثر على سلاسة النص الجميل.. استمري في القراءة أكثر.. ونحن ننتظر إبداع يراعك النقي.. رد خاص للأخت الغالية من الدرعية والتي لم أجد اسمها: لقد أتحفتيني بكلامك الرائع.. أشكرك كثيراً.. وسأزور الدرعية قريباً إن شاء الله.. نوف - - - - - - - - - -
** مجلة حياة العدد (48) ربيع ثاني 1425هـ
- 17 -
فقط هناك لا يوجد ألم
أهدي هذه القصة لطالبة عزيزة.. أحبها في الله.. وإلى كل الفتيات اللاتي يشتكين من آلام حياتهن..
ها هو أول يوم في العطلة يبدأ..
الطالبات يخرجن من قاعة الاختبار تتطاير السعادة من أعينهن لانتهاء العام الدراسي وانتهاء همه وتعبه.. فقد بدأت العطلة أخيراً.. وقت الحرية والراحة والنوم..
الكل فرح ويقفز ويضحك.. إلا أنا..
خرجت من قاعة الاختبار واجمة.. أشعر أن كل هموم الدنيا ترزح على قلبي..
أخذت أسير بتثاقل وأنا لا أعرف ماذا أفعل من شدة الحزن والغم..
لم تكن مشكلتي تتعلق بالدراسة فأنا ولله الحمد متفوقة ولم أخش يوماً الرسوب.. كان همي في عالم آخر.. عالم من الهم والأحزان يبدأ كل عام مع آخر يوم من الاختبارات النهائية.. إن ذلك يعني لي.. موعد الذهاب لبيت أبي.. فأنا أعيش عند أمي منذ انفصالها عن أبي.. لكنه يأخذني إجبارياً كل عام طوال الصيف لأعيش معه ومع زوجته وأبنائه.. وبسبب ذلك أصبحت العطلة الصيفية مصدر قلق وكآبة لي.. وأصبح انتهاءها سبباً لفرحي وسعادتي..
كنت أسحب قدميَّ بصعوبة والدموع تكاد تنهمر من عيني وأنا أسارع بالخروج.. كان علي العودة للبيت لآخذ أغراضي ثم أذهب لبيت أبي..
حين دخلت البيت كانت أمي في المطبخ وصوت إذاعة القرآن ينبعث منه ناشراً الراحة والطمأنينة في البيت رغم جو الحزن..
أسرعت لغرفتي ثم اغتسلت وغيرت ثيابي.. تأكدت من اكتمال حاجياتي في الحقيبة.. وضعت بعض كتيباتي ومجلاتي وأشرطتي الدينية مع مسجلي الصغير.. حاولت أن أتذكر كل ما يمكن أن أكون قد نسيته.. ثم سحبت حقيبتي قرب الباب.. وذهبت لأمي في المطبخ.. كانت أمي تحاول أن تكون هادئة وطبيعية جداً.. ابتسمت لي ثم اقتربت مني وسألتني..
- هل تأكدت أن كل شيء جاهز؟ ألم تنسي شيئاً؟ - كلا إن شاء الله.. كل شيء موجود..
- هل أخذت فرشاة أسنانك؟ - نعم..
صمتت قليلاً وهي تحاول أن تبحث عن شيء ما لتقوله ثم قالت بارتباك.. - لا بأس يا بنيتي تحملي.. كوني هادئة وأطيعي والدك.. ولا تتجادلي مع زوجته أرجوك..
سكت على مضض فقد أصاب كلامها الوتر الحساس في قلبي.. تنهدت بألم ثم قالت وهي تصطنع الابتسامة.. - يا الله!.. كلها (كم يوم) وستمر بإذن الله.. لا تهتمي ولا تتضايقي..
وتوقفت قليلاً ثم قالت فجأة.. - نور.. احرصي على الصلاة.. صلاة الفجر! - إن شاء الله يمه..
كنت أعلم أنها تحترق لفراقي لكنها لا تحب أن تظهر مشاعرها.. وكذلك أنا.. لذا فقد تم وداعنا بالأعين المليئة بالدموع.. عانقتها بهدوء.. ثم افترقنا.. خرجت نحو الباب فإذا بالسيارة تنتظرني.. كان يبدو غاضباً لتأخري.. ركبت وسلمت.. سألته عن حاله وهو كذلك.. ثم سرنا طوال الطريق في صمت.. كنت أنظر إليه طوال الوقت وأسأل نفسي.. ماذا يريد مني؟ لماذا يريدني ويجبرني على العيش معه ومع زوجته؟ لو كان يحبني لما طلّق أمي.. ولو كان يحبني فلماذا لا يتبادل معي ولو شيئاً من الكلام؟! أشعر أنه إنما يصر على أن أذهب إليه ليقهر أمي.. ليرضي غروره وعناده.. أما أنا ففي الحقيقة لا يريدني ولا يشعر بأي مشاعر تجاهي إن لم تكن مشاعر نفور..
حاولت جاهدة خلال سنوات طويلة أن أحبه.. ولكن عبثاً لم أستطع.. لم أستطع أبداً.. فهو غاضب طوال الوقت.. كلامه صراخ.. وصراخه سب وشتم وإهانات جارحة.. منذ أن نراه والرعب يسيطر علينا.. نخشى أن نتلفظ أمامه بكلمة فيفهمها خطأ فيحدث الزلزال.. أو نخطئ أو ننسى فيصب براكين الغضب على رؤوسنا ليحرق قلوبنا بكل ما لديه من كلمات قاسية جارحة لا ينمحي أثرها في القلب ولو بعد سنوات..
إنني أحمد الله فقط حين أرى حال أبنائه.. مساكين لأنهم يعيشون لديه طوال الوقت.. على الأقل أنا لا أدخل هذا المعتقل إلا في الصيف.. الحمد لله..
حين دخلت لم أجد أحداً كالعادة في انتظاري.. كان قدومي أمراً غير مرغوب فيه من قبل الجميع لذا لم يكن من المستغرب أن أدخل لأجد زوجة والدي تصرخ على ابنتها الصغرى دون أدنى اهتمام بي.. كانت تلاحقها لتأمرها بارتداء حذائها وتجري خلفها أمامي في الصالة دون أن تكلف نفسها عناء الوقوف للرد على السلام..
سحبت حقيبتي وأنا أدوس على عباءتي بأسى واتجهت نحو غرفة أختي نوال التي تصغرني بعامين.. حين دخلت كانت نوال مستلقية تتصفح مجلة ومسجلها يصدح بالغناء كعادتها.. شعرت بقلبي ينقبض بشدة.. استغفرت الله.. وتوجهت نحوها لأسلم عليها.. فقفزت من مكانها وسلمت علي بحرارة.. والحقيقة أن نوال كانت دائماً طيبة وتحبني رغم اختلافنا الكبير.. فهي صاحبة قلب بريء وطيب لولا تأثير من حولها عليها.. وحين قمت بوضع حقيبتي على الأرض وعلقت عباءتي خلف الباب.. لم أعرف ماذا أفعل.. جلست قرب نوال على السرير.. كنت محرجة وكأني ضيفة ثقيلة في بيت غرباء..
- نوال أرجوك أنا متعبة أريد بطانية لأفرشها على الأرض وأنام.. - لحظة..
وأسرعت تخرج لتبحث لي عن بطانية بينما قمت لأطفئ المسجل الذي سبب لي صداعاً.. جلست ووضعت رأسي بين يدي وأخذت أعصره بألم.. وماذا بعد الآن؟.. سأقضي ثلاثة أشهر هنا.. ثلاثة أشهر من الغربة والوحدة والرسمية والشعور بالخوف.. يا ربي ارحمني..
وحين أتت نوال فرشت المسكينة فراشي على الأرض بعناية.. أخذت أراقبها.. كانت سعيدة بي.. لكنها لا تعبر عن ذلك..
- يا الله.. شكراً.. أنا فعلاً محتاجة للنوم.. لم أنم جيداً منذ ثلاثة أيام.. - كان الله في عونك.. نحن انتهينا بالأمس..
- لماذا ألا تعجبك الأغنية إنها هادئة ومريحة للأعصاب!
ابتسمت ولم أعرف ماذا أقول لها.. مسكينة.. كنت متعبة جداً وبالكاد أفتح عيني من شدة النعاس.. لكني حاولت أن أوضح لها..
- حبيبتي نوال.. حين نقف جميعاً يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى يوم الحساب.. هل تعتقدين أن هذه الأغاني ستوضع في ميزان أعمالك الصالحة أم السيئة؟
- لا أعرف..
- كلا أنت تعرفين جيداً.. اسألي نفسك وأجيبي..
- ولكن.. إنها تخفف عني الألم والحزن..
- على العكس.. انظري لنفسك إنك حين تستمعين لها تغرقين في عالم من الحزن والأحلام واليأس من الحياة.. أين هذا من سماع كتاب الله.. هل تسمعين أشرطة دينية أو أشرطة قرآن؟
- بصراحة كلا..
- هذا شيء مؤكد.. فمن يستمع للأغاني لا يوجد في قلبه مكان لحب كلام الله.. سبحان الله اسمعي ما يقول الشاعر.. (حب أغانٍ وحب قرآن.. في قلب عبد ليس يجتمعان..) فكيف يجتمع كلام الشياطين مع كلام الله سبحانه وتعالى..
- صدقيني يا نور.. أنا أريد تركها.. لكن لا أعرف.. كل من حولي يسمعونها.. صديقاتي قريباتي.. سأبدو غريبة ومتخلفة لو تركتها إنها حولي في كل مكان..
- لكنهم جميعاً لن ينفعوك في قبرك.. لن ينفعوك يوم القيامة.. اعملي لنفسك من الآن.. فلا أحد يعرف متى تنتهي حياته.. لا أحد..
- كلامك جميل يا نور.. لكن.. أنت لا تعرفين حجم المأساة التي أعيشها.. لا تعرفين مقدار الألم الذي أعانيه كل يوم.. إنني أعيش ضغطاً نفسياً رهيباً.. أبي.. أمي.. كلاهما قاسٍ.. لا أحد يستمع إلي.. لا أحد يقول لي كلمة حب أو حنان.. إنني أشعر بالراحة حين أسمع هذه الأغاني لأنها تعوضني عن معاني الحب والود..
بدت عيناها تلمعان بالدموع.. شعرت بتعاطف كبير معها.. فأنا فعلاً أقدر الألم الرهيب الذي تعانيه المسكينة..
- ولكن هذه الأغاني هي مثل المخدر.. إنها تخدرك فقط لتطير بك بعيداً وتجعلك تسبحين في عالم من الوهم والحلم.. ثم ماذا؟! لا شيء.. لا شيء.. تعصين ربك.. وتقضين وقتك في سماع كلام أناس منحرفين.. بينما إخواننا في أصقاع الأرض يقتلون ويذبحون.. بينما الله سبحانه وتعالى يقول لنا.. ادعوني أستجب لكم.. ونحن معرضون عنه.. مشغولون بالاستماع لهذه الأغاني!
سكتت.. فقلت لها..
- نوال.. هل تعرفين؟.. الحور تغني في الجنة.. وغناؤها جميييييييل.. رائع.. لا يمكن وصف عذوبة أصواتهن.. ومن يستمع للأغاني في الدنيا يحرم من سماع غناء الجنة.. فهل تبيعين الثمين بالرخيص؟! كوني قوية يا نوال ولا تستسلمي للضغوط وتبحثي عن مخدرات الألم.. عالجي الألم ولا تهدئيه.. كوني قوية وواجهي الألم حتى تستطيعي العيش برضا..
بدأت الدموع تنساب من عينيها فقد كانت بحاجة لمن تتكلم معه وتشعره بألمها.. قالت بصوت مرتعش.. - سبحان الله..
- حبيبتي.. هذه الدار والله لا تستحق دمعة من دموعك.. إنها دار فانية بكل ما فيها من آلام وضغوط.. دار مؤقتة سننتقل بعدها للأبدية.. للحياة التي لا تنتهي.. فأيهما تستحق البكاء عليها.. هذه الدار التي لن نعيش فيها سوى سنوات معدودة أم دار البقاء الأبدي والجنان التي لا معنى للألم فيها.. فقط راحة ونعيم أبدي؟!
فجأة.. فتح والدي الغرفة بقوة.. بدا هائجاً وغاضباً.. وصرخ.. - يعني لازم عزيمة على الغدا؟ يا الله.. الله يـ ( ).. لم أستطع أن أقول له أنني لا أستطيع التحرك من التعب وأنني أريد النوم.. بل نظرت لنوال وابتسمنا لبعضنا.. ثم قمت بتثاقل.. وهو يسير أمامنا وبتذمر صارخاً.. - بنات آخر زمن.. مثل الـ ( ) أكل ومرعى وقلة صنعة..
في تلك اللحظة.. حمدت الله فعلاً لأن كل هذا سينتهي لا محالة في يوم من الأيام، مهما كان مؤلماً.. كل الألم سينتهي.. وهناك دار أخرى.. حيث لا ألم..
** مجلة حياة العدد (49) جمادى الأولى 1425هـ
- 18 -
يكفي أنها أمي!
في صباح أشعر اليوم بتأنيب الضمير.. فها أنا أسير عائدة من المدرسة وورقة الدعوة لمجلس الأمهات ممزقة في يدي.. لا داعي لأن أريها أمي.. فهي أصلاً لا تقرأ.. ولا داعي لحضورها حتى.. قطعتها إرباً أصغر ورميتها في الشارع والألم يغتالني..
منذ أن دخلت المرحلة المتوسطة وأنا أحاول بكل استطاعتي أن لا ترى إحدى من صديقاتي أو معلماتي أمي.. لكني اليوم أشعر بتأنيب ضمير بشكل أشد.. فقد فزت بمركز الطالبة المثالية على مستوى المدرسة.. وهذه أول مرة يتم تكريمي فيها في حفل الأمهات.. لكن أمي لن تحضر.. أو بالأحرى.. لا أريدها أن تحضر..
حين دخلت البيت كان التوتر والحزن بادياً عليّ.. سألتني أمي بعطف.. - ما بك يا بنيتي..؟ هل أزعجك شيء؟
شعرت برغبة في البكاء لكني تماسكت.. - لا شيء يا أمي.. فقط متعبة قليلاً من الدراسة..
- الحمد لله.. إذاً ارتاحي في غرفتك وأنا سأحضر لك الغداء هناك..
- شكراً يا أمي لا أريد.. نفسي "مسدودة"!
أسرعت لغرفتي غيرت ملابسي وتوضأت وصليت.. ثم استلقيت على سريري.. يا الله.. ما أجمل الراحة! الحمد لله..
نظرت لغرفتي.. إنها مرتبة.. كل شيء نظيف.. مسكينة أمي.. حبيبتي.. إنها تتعب كثيراً من أجلي.. فرغم كبر سنها وعدم وجود خادمة تعينها إلا أنها تحاول قدر الإمكان ألا تتعبني معها في عمل البيت رغم إصرار أخواتي المتزوجات عليها بأن ترغمني على العمل..
أخذت أفكر في حالي.. كم أنا مغرورة ومتعجرفة.. إنها تفعل كل ذلك من أجلي.. وأنا.. أنا.. أستحي منها وأخجل من أن تراها معلماتي وصديقاتي.. يا ربي.. أشعر بصراع داخلي رهيب.. صوت يقول.. حرام! مسكينة أمك.. لماذا تتنكرين لها هكذا وهي الأم الحنون التي تحبك؟.. وصوت يقول لي.. كلا!! أنت على حق.. لا يمكن أن تراها صديقاتك!! أمك إنسانة متخلفة!.. مسكينة تثير الشفقة والسخرية في نفس الوقت.. انظري لطريقة لباسها وكلامها.. ومفرق شعرها اللامع وكحل الإثمد الذي تضعه حول عينيها.. كيف سترينها صديقاتك اللاتي معظمهن أمهاتهن على قدر من العلم والثقافة والأناقة والمركز الاجتماعي؟!.. بالتأكيد سيسخرن منها.. وأنت لا تريدين ذلك؟!
في إحدى المرات حين كنت في الصف السادس.. أذكر أنها حين أتت للمدرسة سألت إحدى المراقبات الإداريات المسؤولات عن الحضور والغياب عني!.. واعتقدت أنها معلمة فأخذت توصيها بي وتسألها أن ترحمني لأني أدرس طوال الوقت في البيت!! وكدت أموت من شدة الحرج يومها حين رأيت الإدارية تمسك زمام ضحكتها على أمي المسكينة.. وحين توجهت للتسجيل في المرحلة المتوسطة.. أخذت تسأل المديرة عما إذا كان من الواجب أن نلتزم بلبس "الياقة" البيضاء حول الرقبة – مثل المرحلة الابتدائية.. وهنا كدت أموت أيضاً من شدة الحرج..
آآه.. يا أمي.. ليتك تعلمين كم أحبك وأحرج في نفس الوقت من تصرفاتك.. لأني أتمنى أن تكوني دائماً أفضل الأمهات ولا أريد لأحد أن يسخر منك..
أحياناً حين أنظر لأمي.. أشعر أنها مسكينة.. فهي لم تشعر بالحب مرة واحدة في حياتها.. فقد ولدت في بيئة قاسية.. ثم ترعرعت يتيمة وحيدة.. وتزوجت وهي طفلة لرجل مسن حاد الطباع هو أبي.. أنجبت منه أحد عشر ابناً وابنة ورثوا عن أبيهم حدة طباعه وعصبيته – أنا أصغرهم.. وأنهك المرض والخرف جسم زوجها- أبي فلم يعد يعي شيئاً منذ دخلت أبواب المدرسة وفتحت نوافذ الحياة.. وها هي تعتني به حتى الآن رغم كبر سنها.. فمن أين يمكن أن تكون ذاقت طعم الحب؟ مسكينة.. ذات يوم قلت لها وهي جالسة على أرض المطبخ تقوم بتنقية التمر وغسله استعداداً لكنزه.. - يمه..
- هلا..
شعرت أني سأسألها سؤالاً قاسياً لكنه كان يدور في ذهني منذ مدة طويلة.. - لقد عشت طفولة معذبة.. هل كان هناك من يحبك ويعطف عليك..؟
سكتت وأخذت تفكر كمن صدمت بالسؤال.. سقطت حبتين من التمر من يدها.. ثم مسحت رأسها بجانب ذراعها.. وقالت.. - إيه.. كانت هناك ابنة صغيرة من بنات عمي الذي رباني.. كانت تحبني وتعطف علي.. وحين يضربني عمي أو زوجته أو يحرماني من العشاء كانت تخفف من ألمي وبكائي وتعطيني بعض عشائها.. الله يرحمها.. كانت تحبني أكثر من أخوتها..
- سبحان الله توفت؟!
- نعم.. توفت.. أصيبت بحمى شديدة بعد موسم المطر.. ثلاث ليالٍ ثم توفت الله يشفع فيها.. كان عمرها تسع سنين وأنا عشر..
- وبعدين..؟
- ماذا؟
- من أصبح يحبك ويعطف عليك بعدها؟
- لا أحد..
- لا أحد؟!
وقفت تفكر بصمت وبوجوم.. ثم تداركت بسرعة.. - طبعاً الله يخلي لي "عيالي" وأبوهم إن شاء الله.. وحاولت أن تستمر في عملها منشغلة عن هذا الحديث..
في تلك الليلة.. أخذت أفكر.. أي معاناة عانتها أمي المسكينة في طفولتها.. وأي حرمان من الحب عاشته في حياتها.. ورغم كل ذلك الألم الذي تجرعته.. فإنها قادرة وبكل سخاء على منح الحب والعطف للآخرين مهما قسوا عليها.. كم هي حقاً إنسانة عظيمة تستحق التقدير.. وكم أنا غبية لأني لا أفتخر بأم مثلها..
وفي الصباح حاولت أن أخبرها أن حفل الأمهات بعد يومين.. لكني وجدت نفسي أتوقف.. وأفكر في مسألة الإحراج مرة أخرى.. وفي مفرق الشعر.. ورائحة الحناء.. والحديث البسيط.. فأحجم عن مفاتحتها بالأمر..
* * *
وفي المدرسة.. وكأن الله أرادني أن أشعر بعظمة أمي.. جاءتني صديقتي نورة في الفسحة وجلست بقربي مع الشلة دون أن تتحدث.. شعرت أنها تريد أن تقول شيئاً لا تستطيع قوله أمام البنات.. - نورة.. تقومين نتمشى؟ قفزت بسرعة وكأنها كانت تنتظر هذه الدعوة بفارغ الصبر.. وما أن بدأنا نبتعد عن البنات حتى بدأت تفضفض لي ما بصدرها المثقل.. - إنني متعبة.. متعبة جداً يا مريم.. أكاد أنهار من شدة الألم الذي في قلبي..
- ماذا هناك.. خيراً إن شاء الله..؟!
- أمي.. أمي.. إنها قاسية.. قاسية جداً علينا.. تخيلي يا مريم أننا لا نراها ولا نكلمها إلا نادراً ومع هذا فهي لا تواجهنا إلا بوجه متضايق غاضب دائماً..
- لا ترونها؟.. كيف؟
- أنت تعلمين أنها تعمل.. وهي تقضي بقية اليوم في النوم أو حضور المناسبات الاجتماعية أو الذهاب للنادي.. لذا فإننا لا نراها إلا قليلاً وتكون متعبة ومتوترة ولا تريد أن تستمع لنا..
تركت نورة تكمل مشكلتها وأنا منبهرة فقالت وهي تخنق عبراتها.. - بالأمس تناقشنا في موضوع بسيط.. فاحتد النقاش بسبب غضبها وتوترها.. هل تعرفين ماذا قالت لي؟.. قالت أنها لا تحبني ولا تطيقني.. بل تكرهني وتتمنى لو تراني أنا وأخوتي موتى أمامها لترتاح من همنا.. تخيلي!!
صمت وأنا لا أزال مستغربة تماماً ولا أعرف ماذا أقول فأكملت وصوتها يرتجف بنبرة البكاء.. - مريم!.. تخيلي.. تقول أنها تريد أن تراني ميتة أمامها.. لقد بكيت بالأمس.. بكيت ودعوت الله من كل قلبي أن أموت لأريحها بالفعل مني.. وأتخلص من معاملتها القاسية..
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. استعيذي بالله من الشيطان الرجيم يا نورة.. بالتأكيد هي لا تقصد ذلك.. وأخذت أهدئها وأنا أرى خيال أمي الحبيبة البسيطة الحنونة.. وأقارنها بوالدة نورة.. الدكتورة في الكلية.. المثقفة.. الأنيقة.. ولكن الغير قادرة على منح أبسط وأغلى شيء.. وهو الحب..
وفي يوم مجلس الأمهات.. قبضت على يد أمي في ساحة المدرسة وأخذت أعرفها على صديقاتي ومعلماتي بكل فخر.. كنت أعلم أنها امرأة بسيطة وغير متمدنة وقد تقول عبارات مضحكة.. لكنها في نظري أعظم وأسمى وأشرف أم.. يكفي أنها أمي.. وكفى..
كانت عيناها تلمعان ببراءة وهي في فستانها الأبيض.. نظرت إلي.. فابتسمت وأنا أبكي.. حبيبتي.. أختي الصغيرة.. ها هي تترك منزل اليتم.. إلى عالم آخر.. تلفت في الحفل.. نظرت إلى الوجوه.. كنت أتمنى أن تحصل معجزة وأرى بين الوجوه وجه أمي التي لا أعرف عنوانها ولا بلدها.. أمي التي لم أرها منذ ثمانية عشر عاماً.. لكني لم أر شيئاً..
لا زلت أرى عينيها الغارقتين في الدموع.. وأشتم رائحة عنقها الدافئ.. - حبيبتي مها.. عمري.. مهّاوي.. حضنتني بقوة وأنا أستغرب هذا التصرف.. كانت ترتدي عباءتها.. وتسحب حقيبة سفرها.. وأنا أريد التنصل من يديها لأكمل اللعب مع ابنة جيراننا.. وقفت خلود تبكي.. وتعلقت بعباءة أمي قبل أن يدفعها والدي لتخرج بصعوبة من البيت.. بينما كانت رحاب الصغيرة نائمة.. حين اقتربت الشمس من المغيب عدت لأبحث عن أمي.. فلم أجدها.. وبقيت أصيح أمام غرفتها حتى نمت على الأرض.. وبعد فترة علمت أن أمي لن تعود.. أبداً..
* * *
عشنا في البداية حياة مليئة باليتم والوحدة ونحن ثلاثة أطفال أكبرنا لم تجاوز التاسعة وأصغرنا أكملت للتو عامها الثاني.. لا زلت أذكر معاناتي أنا وخلود في تنظيف رحاب وتغيير ملابسها والتعامل مع صياحها طوال الليل باحثة عن أمي.. وكان أبي يتعمد تجاهلنا حتى لا يشعر بتأنيب الضمير.. فكان يخرج من البيت كثيراً.. ولا نراه إلا قليلاً.. وحين بدأت المدارس.. كان علينا أن نعاني من هموم أخرى.. فعلينا الاستيقاظ باكراً.. لنأخذ رحاب لجارتنا أم خالد.. كانت خلود المسكينة هي أمنا.. فكانت توقظني.. وتغير ملابس رحاب ثم تأخذها وهي تصيح لبيت الجارة.. ثم نذهب لمدرستنا سيراً على الأقدام.. وكان ذلك عامي الأول في المدرسة..
* * *
لا أنسى.. يوم.. أن صرخت أبلة حصة على خلود في الطابور.. وأنبتها أمام الطالبات لأن مريولها غير مرتب.. شعرت يومها أن أبلة حصة تنتقص من أمي.. نعم.. فخلود كانت أمي.. المسكينة وقفت ولم تتكلم.. ولم يكن هناك مجال لأن تشرح شيئاً.. عيناها كانتا حمراوين يومها..
* * *
تزوج أبي.. وأحضر امرأة سليطة اللسان إلى بيتنا.. في البداية.. تقززت من البيت الذي كانت رائحته سيئة كما تقول.. وبدأت تلقي أوامرها.. ورضخنا لها.. كنا نراها تخرج وتذهب وتعود.. ونحن جالسون لوحدنا في البيت.. لا نتحرك.. ذات يوم سألتني رحوبة.. "ما هي حديقة الحيوان؟" بدأت دموعي تنساب وأنا صامتة.. لم أستطع أن أشرح لها.. وسكتت خلود أيضاً..
* * *
مع زواج أبي.. بدأ يغضب علينا كثيراً.. ويصرخ.. ثم.. أخذ يضرب.. ذات مرة ضرب خلود بعصا المكنسة.. ومرة أخرى رماني بقدر وجده في المطبخ لأني حرقت الطعام.. وفي مرات كثيرة دعا علينا بالموت.. كنت فقط أشفق على رحاب المسكينة.. لم أكن أود أن ترى والدي في هذه الحالات فتصاب بالرعب..
* * *
كبرنا وكبرت همومنا.. كنا نرى إخوتنا من أبي يكبرون.. وهم يعيشون طفولة أخرى.. لكننا لا نجرؤ على الكلام.. خُطبت خلود.. وبكت كثيراً.. قالت أنها لا تريد ترك رحاب.. لكني أقنعتها أن رحاب لم تعد طفلة.. عمرها الآن عشر سنوات.. وتزوجت خلود.. دون حفل ولا فستان أبيض.. دعوت الله لها كثيراً.. وبكيت.. وتذكرت رائحة أمي..
* * *
أنجبت خلود.. لكنها بقيت في بيتها.. كانت تعلم أن زوجة والدي لا تريدها هنا.. فذهبت إليها.. كانت متعبة كثيراً.. ولم أعرف كيف أتصرف معها في البداية.. لكنها أصبحت أفضل فيما بعد.. طفلتها كانت لها عينان لامعتان جميلتان.. لم يرها والدي إلا بعد أن أكملت أسبوعاً.. - سأسميها نعمة.. نظر إليها والدي بغضب.. نظراته مرعبة.. - كلا! والله لا تسمينها هذا الاسم! ابتلعت خلود غصتها.. وسكتت.. شعرت بطعنة في صدري.. وما يضرك يا أبي؟.. هل تحرمنا حتى من اسم أمي؟ حين خرج والدي قالت خلود.. - والله لولا أني أخشى عليكما من سطوته.. لأسميتها بهذا الاسم مهما فعل.. كانت رحاب صامتة.. فهي لا تعرف أمي.. ولا رائحتها.. ولا اسمها..
* * *
بعد فترة خطبت أنا أيضاً.. وتزوجت.. كان زواجاً سريعاً.. والرجل.. لا بأس به.. أفضل من والدي على أية حال.. ليت لي أماً أشكو لها.. ليت لي أماً أستشيرها.. بعد عام أنجبت طفلاً.. وتغير زوجي.. بدأ يصبح أفضل.. لكن.. كان هناك ألم كبير في حياتي.. ألم لم أستطع اقتلاع جذوره.. كان يخيم على حياتي بشكل رهيب.. كلما رأيت طفلي يلعب وأنا أجري خلفه أحميه وأداعبه.. أتذكر طفولتي.. وأتذكر أختي الصغيرة.. فتنساب الدموع من عيني.. كلما رأيت طفلي يتعلق بعباءتي حين أخرج.. أتذكر أمي في وداعها الأخير فأعود إليه.. وأنجبت طفلاً ثانياً وثالثاً.. وشعور اليتم يقتلني..
* * *
وهي تجلس بكامل زينتها على المنصة.. كنت أرى في عيني رحاب الطفولة المعذبة.. ومن بين أصوات الدفوف.. كنت أسمع بوضوح صوت بكائها ونحن نحملها صباحاً لبيت أم خالد.. وكنت أسمع صياحها وخلود تدور بها حائرة في ممرات المنزل فجراً.. كنت أسمع صوتها تنادي.. ماما.. ماما.. ونحن نبكي معها.. قرصتني خلود وهي تتهادى ببطنها الكبير.. - كفى بكاء!.. لا تحزنيها ليلة زفافها.. ابتلعت الغصة وسكت.. وبعد أسبوع.. أنجبت خلود.. أنجبت طفلة سمراء جميلة.. وهذه المرة فقط.. أسمتها.. نعمة..
** مجلة حياة العدد (51) رجب 1425هـ
- 20 -
صراع الذكريات
علا الصراخ بشكل غير طبيعي هذه المرة.. سقطت السيارة الصغيرة من يد عبودي وأخذ ينظر إلي بخوف.. يا للمسكين.. أسرعت أغلق باب غرفتي واحتضنت عبودي.. - "خلاص" حبيبي.. لا تخف.. لم يحصل شيء.. - أريد ماما.. أريد ماما.. - ماما مشغولة الآن.. أخذت أمسح شعره بحنان وأنا أكثر حاجة منه لمن يحتويني في هذه اللحظة..
فتحت هيفاء الباب بهدوء ونظرات الخوف تكسو وجهها.. كنت أعرف ماذا تريد أن تقول.. وهي كذلك تعرف ما في قلبي.. كان هناك فقط كم من المشاعر على وجوهنا تتكلم.. دخلت وأغلقت الباب وجلست على سريرها شاحبة.. بينما أصوات الصراخ تعلو.. سكت قليلاً.. - ماذا حصل؟ سألتُها.. - لا أعرف.. ربما لأنها نسيت صنبور الحديقة مفتوحاً! ساد الصمت مرة أخرى.. - إنه غاضب منذ البارحة.. عمتي منيرة "زعلانة" لأن أمي لم تزرها في المستشفى منذ أول يوم.. وقد صبت غضبها على أبي.. - يا الله!!.. لماذا هم هكذا؟.. مسكينة أمي!.. لقد كان عليها حضور زواج ابن أختها.. كيف تذهب لعمتي؟ ثم إن عملية عمتي هي جيوب أنفية.. لم كل تلك الضجة؟! - اسأليه! فجأة رفع عبودي رأسه.. - أبيل.. نلوح سوبلمالكت اليوم؟ أطلقت ضحكة أسالت دموعي الساخنة.. - أي سوبرماركت يا حبيبي..! وتنهدتُ بحرقة.. - سنقضي أسبوعاً من الألم والنكد والعزلة بسبب مثل هذا الشجار.. استلقت هيفاء على السرير وأعطتني ظهرها.. أحسست أنها تبكي.. ابتلعت غصتي وسكت بينما أصوات الصراخ تعلو.. تقترب وتبتعد أحياناً.. وفجأة سمعت صوت ارتطام شيء.. - وأنت يا ثور..!! عرفت أنه أحمد.. لا بدَّ وأنه قد مرَّ في منطقة الخطر.. ليحصل على نصيبه من الحلوى.. وبعد قليل فتح الباب بهدوء ودخل.. نظراته الكسيرة توحي بالحيرة والضياع والألم.. جلس على السرير قرب هيفاء.. حك رأسه.. وتناول مجلة أطفال قديمة يتصفحها.. يحاول أن يبدو مشغولاً وغير مهتم.. شعرت بتعاطف كبير معه.. كنت أعلم يقيناً أنه تعرض لضربة موجعة.. لكني لم أشأ أن أكسر شيئاً من كبريائه وهو في سنوات مراهقته الأولى.. بعد قليل تكلم.. - أبي غاضب..! سكت.. فلا تعليق لدي.. لكني كنت أعرف أنه يريد مدخلاً للحديث.. - كسر لعبة الكمبيوتر الجديدة! يا الله!!!.. لا يمكن.. مسكين!.. لقد بقي أحمد عاماً كاملاً يجمع من مصروفه وعيدياته ليشتريها.. لا يمكن..! مسح كتفه ثم ابتسم.. - وضربني بسلكها أيضاً!! كان يحاول أن يبدي عدم الاهتمام.. لكني كنت قد وصلت إلى حافة الانهيار وأكاد بالفعل أن أبكي.. وتماسكت بصعوبة حتى لا أزيد جراحه.. هدأ الصراخ.. فشعرت بخوف أكثر.. لأن هذا هو الوقت الذي يطل فيه أبي علينا ليلقي تهديده ووعيده.. أخذت أمسح باستمرار على رأس عبودي الذي نام في حضني وغاب – لحسن حظه- عن المشهد.. جو خانق في الغرفة.. لكنه يبدو في الخارج خانقاً ومخيفاً أكثر.. بقينا صامتين.. هيفاء شبه نائمة.. وأحمد يقلب صفحات المجلة القديمة ويحاول أن يبدي اهتمامه بها.. وأنا أصارع دموعي ونشيجي كي لا يظهر.. فُتح الباب بقوة كما توقعنا.. كان غاضباً بشكل رهيب.. وجهه محمر.. عيناه تطلقان الشرر.. صرخ بقوة.. وصرخ.. وصرخ.. وكال الشتائم لأمي أمامنا حتى يغيظنا.. وهدد وهدد.. وكان علينا أن نقف هادئين مطأطئين رؤوسنا باحترام وأن نرضيه ونبدي السعادة أيضاً أمامه.. وحين سكتنا صرخ.. - لماذا أنتم صامتون؟ تكلموا.. هيا.. قولوا شيئاً.. نظرنا لبعضنا في خوف فماذا عسانا نقول؟.. إن أي خطأ أو هفوة بسيطة في الكلام قد تكلفنا صفعة على الوجه.. تطوعت للرد وأنا أرتجف.. - خيراً إن شاء الله يا أبي.. صرخ كمن ينتظر سبباً لإكمال صراخه.. - وأي خير يرتجى منكم ومن أمكم.. أي خير؟ هاه؟.. قولوا.. أيها الـ.. الـ.. واستمر في الإهانات الجارحة التي كانت أقوى من أي صفعة.. في تلك اللحظة.. استيقظ عبودي من النوم.. وبدأ يبكي ويصيح من الخوف.. فازداد غضب أبي.. وصرخ قليلاً ثم أغلق الباب بكل قوته وخرج يكاد يحرق من يمر أمامه.. عندها حضنت عبودي بقوة.. حضنته ووضعت رأسي على رأسه وأخذت أصيح.. وأنشج بقوة.. لم أعد أحتمل.. لأني أحسست بأشياء كثيرة تتحطم في داخلي.. كرامتي.. مشاعري.. روحي.. وحتى حبي لنفسي.. كرهت نفسي لأنها وصلت لهذه المرحلة من الحضيض وتقبل الإهانات.. وبكيت حتى بللت شعر الصغير..
× × ×
بعد سنوات.. بدأت آثار ذلك الألم الذي كنا نعيشه تظهر علينا جميعاً.. كلٌ حسب الطريقة التي اختارها..
هيفاء.. استسلمت لتلك الذكريات.. فهي ترفض الزواج تماماً.. ومتعلقة بأمي بشدة ولا تريد مفارقتها.. علاقتها بأبي رسمية جداً..
أحمد الهادئ.. اختار الهروب من تلك الذكريات.. فترك المنزل.. وأصر على التسجيل في جامعة في مدينة أخرى.. كنت أعلم يقيناً أنه يريد الابتعاد عن والدي وعن المنزل الذي عاش فيه الكثير من الليالي المرعبة..
وعبودي.. الذي كنت أحاول – عبثاً- أن أبعده عن أي مؤثر خارجي كان أقلنا تأثراً.. ربما لأن أبي تغير طبعه بعض الشيء مع كبر سنه.. لكنه لا يزال يعاني من مشاكل دراسية وسرحان.. ولا يزال يبدو يقرض أظافره حتى الآن..
أما عبير.. أنا.. فقد اخترت الطريق الأصعب.. اخترت أن آخذ الأمر كله كتحدٍ.. وصراع.. وأعيش كمقاتل عنيد مع ذكرياتي الأليمة.. حتى أهزمها.. اخترت أن أثبت نفسي وأشق طريقي في الحياة لأعوض شخصيتي المهانة في الطفولة.. درست الطب وتخرجت وتزوجت.. وأنجبت.. وعملت كطبيبة أطفال.. أصبحت أشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية.. وألقي المحاضرات بكل ثقة وقوة.. حياتي الأسرية سعيدة جداً ولله الحمد.. فزوجي إنسان هادئ يقدرني ويحترمني.. وأطفالي سعداء ومرتاحون وينعمون بالحب والأمان.. وحين أرى الفرحة في أعينهم أنسى كل آلامي..
أما والدي.. فقد جاهدت كثيراً لكي أتناسى ما فعله بحقنا.. ودعوت الله أن يغفر لنا وله.. قاتلت وحاربت نفسي طويلاً لكي أسامحه وأصفح عنه بصدق.. وبعد سنوات طويلة.. استطعت ذلك بصعوبة.. وعندها فقط شعرت بالراحة والرضا والسلام.. ولم تعد الذكريات تخيفني..
أعلم أنه أمرٍ مغرٍ جداً.. أن تهرب من الذكريات القاسية.. أو تستسلم لها بكل خنوع.. لكني لم أهرب منها.. ولم أستسلم لها أيضاً.. أنا تركتها في مكانها في الذاكرة.. لكني تحديتها.. وواجهتها.. وتغلبت عليها ولله الحمد..
** مجلة حياة العدد (52) شعبان 1425هـ
- 21 -
صباح الخميس المرعب
- هنوف.. هنوف.. تقلبت قليلاً.. ثم فتحت عيني بصعوبة.. نظرت بلمحة خاطفة لساعة الحائط فإذا بها تشير للتاسعة والنصف.. لكن اليوم خميس.. - ماذا هناك.. لماذا توقظينني الآن؟ - استيقظي بسرعة.. شيء هام.. - يا الله صباح خير!.. وبدأت أجلس بتثاقل.. وأنا أتوقع أنها قد أعدت طبقاً للفطور كعادتها وحصلت مشكلة في المطبخ.. يا لنجلاء وهوايتها السخيفة..!! - أفففففف.. ماذا أحرقت اليوم يا فليحة؟ - لم أحرق شيئاً.. قومي بسرعة.. تعالي.. أمي.. أمي تبكي هناك.. شيء خطير حصل على ما يبدو.. يا الله!.. هل هناك من يبدأ صباح يوم خميس منعش مثلنا؟ بكاء ومشاكل (على الصبح)! يا رب ارحمنا.. - حسناً.. وماذا هناك؟ - أقول تبكي..! - ليست أول مرة.. اسكتي واذهبي.. - هنوف.. صدقيني.. هذه المرة الأمر يختلف.. مم.. يبدو.. يبدو.. ثم همست لي بصوت خائف واتسعت عيناها وكأنها تخبرني بشيء عظيم.. - يبدو أن أبي قد.. تـ.. تزوج..! تلقيت صدمة كبيرة.. لكني حاولت أن أتماسك.. - من قال هذا؟ - هذا ما عرفته من همهماتها ودعواتها عليه.. كنت قد سمعت أخباراً كثيرة من هنا وهناك حول هذا الموضوع، وحدثت خلافات كثيرة بين أمي وأبي تخللها موضوع هذا الزواج.. لكني لم أتوقع أن يتحول هذا الكلام فعلاً لواقع ملموس.. كنت أتوقع أن أبي كان يقول ذلك ليغيظ أمي فقط.. ولم أصدق ما قالته هذه المتهورة.. أو.. لم أرغب في تصديقه.. شعرت بأنها تختلف أو تتخيل.. فصرخت بها بقوة لأقذف سيل غضبي عليها.. - (انقلعي)!! اذهبي يا غراب السوء.. حسناً.. فليتزوج.. أريد أن أنام!! تكورت في سريري وغطيت رأسي حتى أطراف قدمي بالغطاء جيداً.. دفنت رأسي بالمخدة.. وتمنيت لو أعيش في جزيرة صغيرة في المحيط.. تماماً مثل تلك الجزيرة التي كانت تظهر في إحدى حلقات (وودي بيكر) حين كنا صغاراً.. يا سلااااااام.. جزيرة هادئة.. رمال وأشجار جوز الهند.. وأمواج زرقاء صافية.. وأسمع أصوات الطيور.. وأمواج البحر.. فأسترخي في هدوووووووووء.. (ززززززززززززز) يا إلهي.. ما هذا الصوت المرعب!! زلزال! أزلت الغطاء عن وجهي لتظهر أمام عيني (سومارتي) الغاضبة تكنس الغرفة بالمكنسة الكهربائية.. صرخت بغضب.. - ألم تجدي غير هذا الوقت لتكنسي فيه؟!!! صمتت بعناد وأكملت عملها دون أن تلتفت إلي.. يا الله!.. ماذا أفعل.. ياللإزعاج.. مشاكل.. زواج.. بكاء ومكنسة كل هذا في صباح يفترض أن يستمتع الناس فيه..!! خرجت من الغرفة.. ذهبت للحمام.. وحين غسلت وجهي ونظرت لنفسي في المرآة.. بدأت أستوعب حقيقة ما سمعته من نجلاء قبل قليل.. هل يعقل هذا؟ كلا.. لا يمكن.. لابد وأنها خمنت هذا الأمر.. أو هذه المصيبة.. لا.. لا يمكن.. أن.. يتـ.. أعني.. يتزوج.. أبي.. لا يمكن.. فهو أبي.. أبونا نحن.. نحن وحدنا.. ولن يذهب لغيرنا.. هكذا أخذت أفكر ودقات قلبي تتسارع بقوة.. وحين مررت قرب غرفة أمي.. كان صوت بكائها واضحاً.. وبابها مقفل.. والحزن يجثم على البيت بشكل مرعب.. طرقت الباب.. لكنها لم تفتح.. توجهت للصالة.. كان الصغار مستلقين على بطونهم لمشاهدة بعض الأفلام المتحركة.. وحين رأوني شعروا بأني المنقذ لهم..قفزت رنا الصغيرة أمامي.. - هنوف.. أنا جوعانة.. جوعانة - اذهبي لسومارتي.. اطلبي منها أن تصنع لك شيئاً.. - كلا.. سومارتي لا تريد.. إنها غاضبة.. فعلاً.. إنها صادقة.. حين تغضب سومارتي فإنها لا تطاق.. لا أعرف لماذا تجتمع كل الأحزان سوية.. رن الهاتف.. لم أكن أرغب قي الرد لكن عزوز (الملقوف) أسرع ورد على الهاتف ليناولني إياه بعد رد السلام.. ففف.. فكانت المتحدثة زوجة عمي.. لابد وأنها تريد الشماتة.. كانت تريد أن تؤكد لي بطريقة أو بأخرى أن أبي قد تزوج.. لم أستطع إكمال المكالمة فقد بدأت الدموع تنهمر من عيني بلا شعور.. وأغلقت الهاتف بقوة..
* * *
في الأيام التالية.. حاولت أن أكون أكثر تماسكاً وأن أبدو متفاءلة أمام أمي التي كادت تنهار في أول الأمر.. وكنا نتحدث برسمية شديدة معها.. فقط نجلس للأكل فتسألنا بعض الأسئلة البسيطة ثم تعود لغرفتها.. ونحن كنا نراعي مشاعرها قدر الإمكان.. حتى الصغار لم يعودوا يطرقون بابها كالسابق.. وفي المدرسة.. كنت أفكر بقلق.. ماذا أقول حين يسألني أحد عن خبر زواج أبي؟ هل أدعو على أبي وأتحدث عنه بغضب وكأنه ارتكب جرماً كبيراً؟.. أم أنكر الخبر وأكذب؟.. أم أحاول أن أتهرب من الأسئلة وأتركها تدور في أعينهم ليتحدثوا في هذا الأمر خلف ظهري؟! كنت أفكر في هذا الأمر كثيراً، وكنت قلقة بشأنه أكثر من قلقي بشأن زواج أبي نفسه.. لقد وجدت نفسي أخشى مواجهة الآخرين أكثر من مواجهة الواقع الجديد.. وبالفعل.. بدأت الأخبار تعرف طريقها للمدرسة.. وبدأت أسمع بعض الهمسات من خلف ظهري.. مثل: - هذه.. نعم.. هذه.. مسكينة.. تزوج على أمها.. تصدقين..؟ - نعم.. الهنوف (ما غيرها).. أبوها تزوج على أمها.. تصدقين..؟! كانت هذه الهمسات تجرحني أكثر من أي شيء آخر.. فقد أصبحت في أعينهم أثير الشفقة والعطف.. وكنت ألمح بوضوح كيف يغيرون بعض القصص والحكايات حين يمرون على قصة رجل تزوج بثانية حفاظاً على مشاعري.. وابتلعت كل تلك الآهات بصمت.. لكني عموماً.. كنت قوية.. وصامدة..
* * *
بعد أيام تحسنت حالة أمي وعادت للابتسامة.. فقد عاد أبي بعد أن سافر مع زوجته لأسبوع لأداء العمرة.. وقد أحضر لأمي طقماً رائعاً من الألماس.. لم أصدق أني أرى أبي!.. حين عدت من المدرسة ورأيته يجلس بهدوء وأمي تبتسم قربه وأمامهم صينية الشاي.. شعرت بسعادة غامرة.. أسرعت وضممته بشدة حتى أسقط عقاله.. ولم أحدثه في الموضوع.. سألنا عن أحوالنا وعن دراستنا كالعادة.. ثم تغدينا معاً وسط ضحكات أخوتي.. وبقي أبي لدينا حتى الغد.. وكان سعيداً جداً.. وكذلك أمي.. وفي المساء التالي سمعتها تتحدث مع خالتي على الهاتف.. أخبرتها أن أبي أحضر لها هدية وأخبرها بأن مكانتها ستبقى الأغلى لديه.. لكن في نبرة صوتها كان لا يزال هناك ألم.. حين دخلت عليها ذات يوم وهي تتصفح الجريدة.. سألتها بغباء وبلاهة – لا أعرف من أين أتتني! يمه هل أنت سعيدة مع أبي؟ رفعت رأسها مستغربة السؤال.. ثم عادت تتصفح الجريدة وهي تحاول أن تتهرب من النظر إلي.. - ليس كثيراً..! وقلبت صفحة.. ثم قالت وهي تبعد خصلة شعرها خلف أذنها وتتابع القراءة. - لكني لست حزينة.. الحمد لله.. فأبوك لم يتغير.. على الأقل أصبح يهتم بنا أكثر.. شعرت براحة من ردها الصريح.. والحقيقة أن البيت أصبح فعلاً أكثر هدوءاً منذ زواج أبي.. والمشاكل قلت بينهما.. فأصبح يراعي شعورها أكثر.. وحين يأتي يخرج بنا للنزهة وكأنه يعوضنا عن غيابه عنا.. كل ما هناك هو فقط كلام الناس.. وشماتة الحاقدين كزوجة عمي..
* * *
بعد عدة أشهر أستأذننا أبي في أن نرى زوجته الجديدة.. وسمحت لنا أمي بذلك.. وحين رأيتها انتابني – على عكس ما تصورت – شعور بالراحة والرضا.. فهي ليست كما تقول زوجة عمي فتاة جميلة وصغيرة! .. بل امرأة متوسطة العمر ونصيبها من الجمال قليل جداً.. وعرفت أن الذي أعجب أبي فيها هدوءها وأخلاقها الطيبة.. وقد كانت بشوشة.. مرحة.. وطيبة جداً كما يبدو.. كانت تضحك معنا وتروي لنا القصص عن طفولتها بمرح.. وكأننا نعرفها منذ زمن طويل.. وكان أبي سعيداً لاندماجنا معها.. وبعد أشهر جاء اليوم الذي انتظرناه طويلاً وهو اليوم الذي تتقابل فيه أمي معها.. والحمد لله أنهما انسجمنتا ولم تحدث أية مشاكل.. أنجبت زوجة أبي... وأصبح لي أخوة من أب.. لكنهم مثل أشقائي تماماً.. وكانت لأمي مثل الصديقة والأخت.. ومضت حياتنا سعيدة ولله الحمد. وكلما تذكرت ذلك الخميس المرعب الذي سمعنا فيه بزواج أبي لأول مرة.. حمدت الله وشكرته.. لأن بعض الأمور تتحول لعكس ما تبدو عليه في أول الأمر.. (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم)..
** مجلة حياة العدد (53) رمضان 1425هـ
- 22 -
بقلم / نورة الفصام
الأمس الذي لن يعود
إلى نصفي الآخر .. مع خالص المحبة :
ربما لن أسلمكِ هذه الأوراق يوماً ما.. ولكنني كما عهدتني.. أحب سرد مشاعري على أسطر وأوراق لم ولن تنتهي حتى تنتهي تلك الصراعات بين كلماتي وأفكاري داخل رأسي.. وسأظل أتمنى أن تصلك هذه المشاعر مخطوطة على رسالة من الذكرى.. أوراقاً تحملها الأيام...
عندما ينتظر الإنسان مستقبلاً بفارغ الصبر.. ظناً منه بأنه سيتخلص من حياة قديمة باردة.. ثم يبدل الزمن صفحاته.. ويجده أصبح حاضراً لم يعلم بقدومه.. تصبح تلك الحياة القديمة في ناظره صفحة من الماضي يتمنى عودتها يوماً ما..
برغم أن كل شيء كان يبدو رائعاً.. ومتكاملاً.. إلا أن صوتاً كان يتردد في داخلي.. بأنه لا يزال مختلفاً... وأن قلبي لم يكن قد اعتاده بعد.. ربما لأنه عاش في ذكريات الماضي كثيراً.. لدرجة أنه ظن بأنه ينتمي إلى هناك.. في كل مرة أحاول أن أقتلعه وأعيده إلى الحاضر تغرقني الذكريات ويصيبني الاشتياق فانكب جاثية على ركبتي.. وأجد نفسي وقد عدت مرة أخرى إلى الماضي.. وهكذا..
كل شيء فيَّ ما زال كما عهدته.. ولكن تلك الابتسامة التي كانت تنبع من أعماق قلبي سابقاً.. أصبحت الآن مجرد ابتسامة جامدة أرسمها كل صباح..
كنت عندما أجر قدمي في ممرات المدرسة.. أحس بأن كل شيء حولي بارد.. وأرى هالة من السواد تغطيه.. فالشمس لا تبدو مشرقة كما كانت في السابق.. والمكان يخيم عليه الهدوء والصمت أكثر من المعتاد.. والفصل.. يبدو قاتماً مظلماً أكثر فأكثر.. في كل يوم أخطو فيه.. حقيبتي تبدو ثقيلة على كتفي أكثر من السابق.. ربما بسبب تغير عدد الكتب داخلها بتغير صفي الدراسي.. أو ربما لأني أصبحت أنتبه لهذه المنغصات كما لم أكن أفعل من قبل..
يحيط بي العديد ممن أعدهم صديقات.. ولكن يبقى ذلك الشعور بالاغتراب وربما الاختلاف يساورني في كل مرة يتحدثون فيها عما حدث في سنوات ماضية.. وأجد نفسي لا أعي مما يقولون شيئاً.. لأنني وبكل بساطة.. جديدة.. ومن طالبات هذه السنة.. ربما لم أعد أستحق ذلك المسمى الذي اعتدت أن تطلقيه علي.. وردة تجيد العيش في أي بيئة تغرس فيها.. أو ربما تلك الوردة قد اقتلعت من بين دفء من تحب.. لترمى على جبين الصحراء محاولة التكيف.. ولكن دون جدوى.. فهي وبكل بساطة أيضاً.. لا تنتمي إلى هناك..
عندما التصق بذلك الكرسي.. كلمات مخطوطة في ذلك اللوح أمامي.. أصوات عديدة حولي لا أستطيع تمييزها.. ولكن صوت المعلمة وحده يتردد بين جدران الفصل.. في لحظة.. ينتابني شعور لا أعلم بما يسمى.. ربما مزيج من الغربة والملل.. تنخفض الأصوات حولي.. أغمض عيني لثانية.. فإذا بكل شيء يتبدل.. وتبدأ مخيلتي بنسج صورة مكان آخر يظل قلبي مردداً بأنه يُفترض أن يكون فيه.. ملامح يألفها قلبي.. تبتسم لها شفتاي.. نعم.. مكان أعرف فيه كل من حولي.. وكل من حولي يعرفني.. أتلمس الكرسي.. ذات الملمس القديم الذي عهدته.. ذات الخطوط والكلمات التي رسمتها على ذات الطاولة التي أمتلكها.. والأهم من ذلك كله.. ذات الطالبة التي اعتدت وجودها بجانبي.. تضحكين على كل تعليق على تلك وذاك مما يجود به لساني أو يخطه قلمي خفية.. وإن كان تافهاً.. وعندما أصمت.. تلوحين بيدك أمام عيني.. لتعيديني إلى الفصل من مكان خيالي آخر.. أرحل إليه..
ينسج اشتياقي نسيجاً رائعاً ليغطي عيني فلا أرى ولا أسمع إلا ما كنت أريده.. حتى أؤمن أن كل ما كان سوى حلم مزعج راودني ليبين لي قيمة ما أملك.. ولكن صوت المعلمة ذاك كان كفيلاً في كل مرة بأن يمزق نسيجي الجميل..
(أنت ياللي هنا!.. قومي جاوبي..) .. أقف منتصبة يهزني الخمول.. وأخلع ذلك النسيج عن عيني محاولة استراق النظر إلى ما خط على ذلك اللوح.. مدعية بأنني مستوعبة لكل ما كانت تقول.. ولكن ما تسأله قد استصعب علي (أنت وش اسمك؟!).... ترتسم على شفاي ابتسامة الدهشة.. وينحني حاجبي إلى الأسفل... (هاه؟!) .. يتساءل داخلي.. (أنا؟!... ألا تعلم اسمي أنا؟!.. غريبة!!.. أنا من كان صيتها وصيت من كن معها ذائعاً في كل مكان.. وصدى أسمائهن يتردد على مسامع القريب والغريب.. أنا؟!.. ألا تعلم ما اسمي؟!.. وقبل أن أنطق بحرف يرد علي صدى صوت داخلي متردداً في جوفي.. بأنني لم أعد من اعتدت أن أكون..
كنت أحاول إقناع نفسي دائماً.. بأن ما أعيشه الآن أصبح ما يعد مدرستي.. وأن أياماً انطوت تحمل حياة سابقة.. وأيام فرشت تحمل حياة أخرى سأعيشها في كل يوم تشرق فيه شمس مكتوب في عمري على فناء هذه المدرسة.. (مدرستي).. كما يجب لها أن تكون.. ولكن الحقيقة تظهر دائماً... عندما كنت أتحدث مع إحدى الصديقات (مدرستكم نظامها غريب.. كنا في مدرستي غير).. وكأن اسمي لا يندرج بينهم.. أو حينما تثقل أذني بكثرة أحاديثهم المشوقة ولكنها تظل أحاديث.. أردف قائلة: (في مدرستكم تتكلمون كثير.. في مدرستي ما كنا نجلس)..
أتعلمين.. أوقفتني عبارة إحداهن يوماً.. (يبدو وأن كل يوم في مدرستكم كان مختلفاً عن سابقه!).. جرفني الحنين بعباراتها وأيقظ معانٍ داخلي لم أكن أعلم بوجودها.. نعم.. أتذكرين كم كنت أمقت التغيب.. ليقيني بأن صفحة اليوم دائماً ما تكون أحرفها مختلفة عن حروف الأمس.. كل يوم كان يعنى بيومه في حياتنا...
كل شيء كان رائعاً.. لحظات ولحظات كانت تنقش على قلبي بذكراها.. دون أن أحس بها.. أو أحس بقيمتها.. ربما بسبب الاعتيادية التي تلونت لي فيها.. وتهيأت أمام ناظري.. وأصبحت أريد شيئاً واحداً.. تغييرها لعيش لحظات جديدة وحياة جديدة بكل معانيها.. أو ربما بسبب ذلك الطمع الذي كان يكبر في داخلي باحثاً عن الأفضل مما هو فيه.. دون أن يعلم أو يتقين.. بأن ما لديه.. هو الأفضل..
دائماً كنت أنادي قلبي الذي سكن الماضي.. طالبة منه عيش الحاضر.. ولو للحظة.. علّه يجيد التأقلم فيه.. يألف قلوباً تجري البهجة بين أوردته مرة أخرى.. فيردَّ عليَّ سارداً ذكريات تلك الأيام التي كانت لحظاتها ترمى خلف ظهورنا.. محسوبة من أعمارنا.. فيمتع أذني بها.. ولكن اشتياقي يضل واخزاً في داخلي ينغص علي تلك المتعة..
ألا تزالين تذكرين تلك الأيام جيداً؟!.. كم أتمنى أن تكون تلك الجدران لا تزال تردد أصوات أحاديثنا.. وتلك الزوايا.. لا تزال تحفظ صورتنا بين تصدعات جدرانها.. نعم... لن أتمنى أن أعود الآن لأحضانها.. لأنني أعلم بأن كل شيء لم يعد كما كان منذ تركته لآخر مرة.. ولكنني أتمنى أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى تلك اللحظات ذاتها.. لأعيشها مرة أخرى.. كنت أعلم أن الحياة صعبة.. ولكنني الآن أيقنت أنها أصعب.. متى ما واجهتها وحيدةً..
نعم.. لا أزال أذكر ذلك اليوم جيداً.. بمرارة.. آخر يوم دراسي من أيام ذلك العام.. أتذكرين تلك الضحكة التي ظلت مرسومة على شفتاي منذ بدايته.. بحجة أنني لم أكن أريد أن أملأ اليوم دموعاً تعيدني إلى منزلي خائبة تثقلني الهموم.. ليس كنهاية كل عام.. أريد قضاءه بسعادة متناهية ليظل مشرقاً في كتاب ذكرياتي.. قد يكون ذلك صحيحاً.. ولكنني كنت أعلم في داخلي أن ذلك مجرد سعادة مصطنعة.. ربما لتوهمي.. بأنني وأخيراً.. سأتخلص من أثقل أيامي.. وسأحصل على ذلك المستقبل بحلته الجديدة.. أو ربما سعادة اختلقتها بمرور الأيام.. لأغطي بوادر جرح بدأ ينشق في داخلي.. وضعف من مواجهة ذلك الجديد والفشل فيه.. جرحٌ لم أكن أظن أنه سيختفي يوماً ما..
لا أزال أتذكر كيف طلبت منك عدم البكاء لتتبعي سياستي الجديدة التي اتخذتها نهاية ذلك العام.. وكعادتك أجبت بالانصياع لما كنت تعتقدين بأنه صحيحاً.. ومنطقياً.. ولكنني أظن بأن قلبك لم يكترث بذلك المنطق.. وظلَّ يذكرك ولآخر لحظة.. بأن ما يمر من حياتك الآن من لحظات.. هي آخر اللحظات.. وأن الأسطر التي يسجلها التاريخ والذكرى الآن.. هي آخر الأسطر الذي سيردف فيها اسمي مع اسمك بجانب بعضهما البعض.. نعم في نهاية ذلك اليوم.. لم أجدك.. أخذت التفت يمينا وشمالاً.. ولكنني لم أجدك.. كانت لحظات معدودة من البحث.. لا تزال صورتك مطبوعة في داخلي.. كنت قد اختبأت عن ناظري في أحد الممرات وانطويت ترسلين دموعاً لم تعد عينيك قادرة على إخفائها طوال اليوم.. وأسقطت تلك الضحكة التي فرضتها عليك.. بعد أن أصبحت ثقيلة على شفتيك.. كم كنت صغيرة حينها.. صغيرة الإحساس والعقل في تلك اللحظة.. برغم تظاهري أنني لم أكن كذلك..
إلا أن الأيام والتفكير كانت كفيلة بأن توقفني على تلك الحقيقة.. كنت تعلمين بأن كل شيء لن يبقى كما كان.. كل شيء سيختلف ويتبدل بعد ذلك اليوم.. ولكنني لم أكن أعي ذلك.. ببساطة.. ظننت بأنه وككل صيف.. سيعود كل شيء كما كان.. وكان ذلك الشعور بالطمأنينة.. يغطي ذلك الخوف والضعف طوال تلك الأيام.. حتى خطوت في هذه المدرسة ولأول مرة.. انقبض صدري.. وأحسست بأن نبضات ذلك القلب أخذت تتسارع.. وأنفاسي أخذت تقل شيئاً فشيئاً.. أحسست بأن كل ما حولي توقف.. الزمن.. الناس. وحتى عمري.. أو هكذا بدا لي..
لا زلت أذكر كيف ظللت أياماً أخادع نفسي.. بأنه هذا هو المستقبل الذي كنت أنتظره.. وأن ما أحس به مجرد أوهام.. ولكن الأقنعة كانت ثقيلة لدرجة أنها سقطت ولم يعد هناك ما يحول بيني وبين الواقع الذي بتّ أعيشه.. نعم.. يظل الإنسان يحقر ما لديه.. ويطمع في المزيد.. لأن مخيلته تبقى تنسج له عالم أفضل وأكمل.. فيصغر ما لديه.. ولا يحس بقيمة ما يملك.. حتى يفقده...
ربما يصيبك التعجب من صيغة الماضي التي سبقت بها عباراتي.. ولكنني أردت أن أخبرك.. بأن الأيام أخذت تسجل ذكريات رائعة في صفحات كتابي رغماً عني.. أردت أن أخبرك بأن قلبي قد قرر وأخيراً أن يجرب حياة الحاضر.. وقد أجاد التأقلم فيها نوعاً ما.. فقد ترك الماضي مكاناً دافئاً يلجأ إليه متى ما حل شتاء الحنين والاشتياق..
نعم.. لم أعتقد يوماً أن يتلاشى ذلك السواد الذي كان مخيماً على جميع أرجاء ما حولي.. فقد عرفت أنه لم يكن سوى دموعٍ تجلدت في عيني.. وزالت مع مرور الأيام...
أردت فقط أن أخبرك.. بأنك لا تزالين ذلك المعنى الجميل في حياتي.. ذلك المعنى الذي يخالط أحلامي وواقعي في كل يوم من أيام عمري.. وأتمنى أن أعود لأعيش لحظة من تلك اللحظات.. لأبين لك عندها كم تعنين لي.. وستظلين يا صديقتي نصفي الآخر.. وكل ما خادعني اشتياقي بأن صورتك بدأت تختفي من داخلي.. أغمض عيني وأرحل حالمة إلى مكان حيث أعلم أنك ستكونين فيه.. دائماً..
أردت أن أخبرك بأني لا أزال تلك الوردة التي تجيد العيش في أية بيئة.. وإنما لم يكن عليَ سوى أن أمد جذوري قليلاً لأن المياه لم تكن تبعد عني سوى أشبار معدودة.. ومهما سجلتّ الأيام من ذكرى ومهما كانت رائعة.. فستسجلها في صفحات أخرى.. تحت عنوان آخر..
كل هذا ليس لأنني وصلت إلى الأفضل الذي كنت أبحث عنه.. إنما لأني خشيت أن أمقت الحاضر وأعشق الماضي.. كما كنت أعشق المستقبل سابقاً.. أخشى أن أظل أتمنى الأمس أن يكون غداً متجاهلة اليوم وما يحمله من معاني.. متناسية بأنه بعد كل أربع وعشرين ساعة.. يكون اليوم أمساً.. سأتمنى كونه غداً يوماً ما..